رغم أنها غير مصنعة لأيٍ من لقاحات كورونا، ويلزمها مئات الآلاف منها لتلقيح شعبها ووقاية مجتمعها، والخروج من أزماتها، وإعادة تنشيط قطاعاتها الاقتصادية ومرافقها العامة، وفتح المجال أمام تشغيل المطارات وعودة السياحة وفتح الأسواق، وإعادة الثقة بمؤسساتها السياسية والصحية، إلا أنها باتت تتحكم في سوق اللقاحات الدولية، ولديها القدرة على عقد صفقات وإبرام اتفاقيات مع العديد من دول العالم، وذلك من خلال علاقاتها القوية مع الشركات المصنعة للقاح كورونا، ومساهماتها المالية والعلمية في انتاجها، وفائض المخزون لديها، الأمر الذي يجعلها قادرة على التحكم في لقاح كورونا المتعدد الأنواع بالطريقة التي تريد، والاستفادة منه سياسياً وأمنياً واقتصادياً في تحقيق بعض أهدافها التي كانت مستعصية، وباتت مع لقاح كورونا ممكنة وسهلة.
لا تعتمد إسرائيل المعايير الأخلاقية ولا القيم الإنسانية في التعامل مع الدول الأخرى فيما يخص مضادات فيروس كورونا، في الوقت الذي تدعو فيه منظمة الصحة العالمية إلى تخصيص ميزانيات دولية لتغطية نفقات تزويد الدول الفقيرة باللقاح، تحرص حكومة الكيان الصهيوني ورئيسها بنيامين نتنياهو إلى استغلال الحاجة إلى العقاقير المضادة، واستخدامها في تطويع الدول وإخضاع الحكومات، وإرغام الهيئات والأشخاص على التعامل معها، والاستجابة إلى شروطها، وتنفيذ ما تطلبه منهم، سواء بما يخدم المشروع الصهيوني وكيانهم بصورة عامة، أو بما يخدم بنيامين نتنياهو في معركته الانتخابية القادمة، التي يطمح فيها أن يكسر القيود الحزبية التي كبلته في الدورات الثلاث الماضية.
بعد أن غطت حكومة الكيان الصهيوني حاجتها من العقاقير، ولقحت طواقمها الطبية والمرضى والمسنين فيها، ومستوطنيها وجيشها، والأجانب المقيمين فيها والعاملين عندها، التفتت إلى الدول العربية والأخرى الدولية الفقيرة، التي تعاني من العجز المالي والحاجة الصحية، ومن بينها السلطة الفلسطينية، تبتزها وتضغط عليها، وتفاوضها وتشترط عليها، مقابل كمياتٍ من العقاقير تمنحها إياها، أو أخرى تسهل عليها استلامها من المصدر المصنع، فتدفع عنها أو تيسر شروط نقلها إليها.
لم يبد الإسرائيليون خجلاً من سياستهم، ولم ينفوا الأخبار المتناقلة عن محاولات الابتزاز غير الإنسانية التي يمارسونها، بل بلغ الأمر ببعض الإسرائيليين أن عبروا عن استيائهم من سياسة رئيس حكومتهم، الذي بات يستخدم المعاني الإنسانية والقيم الأخلاقية في خدمة مشروعه الشخصي، الذي برر أفعاله الدنيئة بأنه يتصرف في الجرعات الفائضة عن الحاجة، وقد ذكر ديوانه الحكومي أن وزارة الصحة فيها أكثر من سبعة ملايين جرعة مزدوجة، مقدمة من ثلاثة شركات أمريكية وألمانية، ولهذا تتصرف الحكومة بالجرعات الفائضة.
وضعت الحكومة الإسرائيلية أولوياتها فيما يتعلق بدبلوماسية اللقاحات، فأعلنت استعدادها تزويد الدول التي تنوي نقل سفاراتها من تل أبيب إلى مدينة القدس، أو تلك التي تعترف بالقدس عاصمةً للدولة العبرية، وجاء في مقدمتها دولة هندوراس التي تسلمت خمسة آلاف جرعةً دفعةً أولى، وستليها غواتيمالا وتشكيوسلافيا مقابل استعدادهم نقل سفارة بلادهم إلى مدينة القدس، علماً أن الدول الثلاثة سبق لها أن اعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقلت سفاراتها بالفعل إليها.
ومن جهةٍ أخرى نشطت الدبلوماسية الإسرائيلية في تحريك قنوات الاتصال مع بعض الدول العربية والإسلامية، وأبدت استعدادها لتقديم ما تحتاجه من لقاحاتٍ وخبراتٍ في مواجهة كورونا، ولكنها استغلت المساعدات الطبية في تحريك ملف الحوارات المباشرة، وإمكانية توقيع اتفاقيات سلامٍ جديدةٍ مع تل أبيب، أسوةً ببعض الدول التي وقعت واعترفت بكيانهم، وقد شعر نتنياهو أن سياسته أثمرت شكراً واتصالاتٍ مبشرة، تبشر بعلاقاتٍ ثنائية رسمية وعلنية.
وبغض النظر عن مدى صدقية المعلومات، إلا أنها تصب في ذات السياق غير الأخلاقي، فقد نجح نتنياهو في استعادة شابةٍ إسرائيلية كانت معتقلة في دمشق بعد تجاوزها للحدود السورية، مقابل عدة آلاف جرعة من لقاح "سبوتنيك في"، قام بأداء ثمنها إلى الشركة الروسية المصنعة، على أن تقوم بتوريدها إلى سوريا، حال وصول الشابة الإسرائيلية إلى موسكو قادمةً من دمشق.
وبالمقابل تمتنع الحكومة الإسرائيلية عن تزويد السلطة الفلسطينية باللقاح، إلا إذا تعهدت أو الدول المانحة بتغطية تكاليفها، وتشترط عليها إضافةً إلى ذلك الالتزام ببعض الشروط السياسية والأمنية التي تحاول فرضها على الفلسطينيين بالقوة، مقابل منحهم بعض الجرعات الفائضة لديهم، وكانت في وقتٍ مبكرٍ قد ربطت تعاونها مع السلطة الفلسطينية في مواجهة أزمة كورونا، بعودة الأخيرة إلى التنسيق الأمني المشترك.
أما بالنسبة لقطاع غزة المحاصر إسرائيلياً، فإن الحكومة الإسرائيلية تشترط تزويد أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين فيه، أو السماح بوصول الهبات والمساعدات الطبية إليهم، بالحصول على معلومات عن جنودها المفقودين في القطاع، أو بالإفراج عنهم مقابل حصولهم على اللقاحات المضادة.
على الرغم من اعتراض بعض المسؤولين الإسرائيليين على سياسة نتنياهو، حيث وصف بعضهم ما يقوم به نتنياهو بأنه تجارة غير أخلاقية، وأنه يتصرف في الأموال التي يدفعها الشعب ضرائب، وكأنه ملكٌ يملك حرية التصرف وليس رئيس حكومةٍ مسؤول، فيوزعها هباتٍ وهدايا كما يريد، إلا أن معارضتهم تصنف ضمن الكيد الحزبي والمناكفة الداخلية لا أكثر، إذ يرى المعارضون أن هذه السياسة التي يعتمدها نتنياهو تخدم أهدافه القريبة والبعيدة، وستظهر نتائجها لصالحه قريباً في صناديق الانتخابات.
يحاول نتنياهو الذي يبدو مبتسماً عندما يتحدث عن وباء كورونا، متباهياً مزهواً بنجاحه في تلقيح قرابة أربعة ملايين إسرائيلي، مما خفض عدد الإصابات والوفيات اليومية، الدفاع عن نفسه في مواجهة تهمة الابتزاز والضغط غير الأخلاقي، أنه تلقى طلباتٍ مباشرة من بعض الدول الصديقة، التي صادف أن سفارتها تعمل في القدس، ولكنه لا يمارس ضغطاً عليها، ولا يكرهها على تحريك طائرات الشحن إلى تل أبيب لتتسلم حصتها من اللقاحات، ولكن ابتسامته الخافتة لا تخفي نواياه الخبيثة، ولا تستر عيونه الماكرة، ولا تقنع خصومه ببراءة مساعيه وحسن أخلاقه وكرم نفسه.
[email protected]