كان وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو في مستوطنة بساغوت في مدينة البيرة شمال مدينة القدس، يتطوح داخل معمل نبيذٍ يملكه جمهوريٌ من حزبه، ويمينيٌ صهيونيٌ مثله، وانجيليٌ مسيحيٌ يشبهه، وهو مُحْمَرُ الوجنتين، ضاحك الشدقين، بَرَّاق العينين، يتمايل كالمسطول، ويتبختر كالمهبول، ويترنح كالمسكور، فرحٌ مزهوٌ بما يقوم به، منتشيٌ سعيدٌ بما يتفوه به، فقد أعلن وهو يعلم أنه في زيارةٍ أخيرةٍ ومهمةٍ ختاميةٍ، ضم أكثر من 60% إلى السيادة الإسرائيلية، إذ اعتبر أن منتجات المستوطنات الإسرائيلية في المنطقة المصنفة "C" منتجاتٌ قانونية، أنتجتها مستوطناتٌ شرعيةٌ تخضع كلياً للسيادة الإسرائيلية، وأمر سلطات بلاده التجارية وهيئاته الجمركية وسم هذه البضائع بأنها إسرائيلية، ووضع علامةٍ تجاريةٍ فارقةٍ عليها تشير إلى أنها صنعت في "إسرائيل"، فلا يجوز مقاطعتها أو منع دخولها، أو فرض رسوم جمركة عالية عليها.
إنه يومٌ في تاريخ الإسرائيليين مشهودٌ، وفي سجل نتنياهو السياسي مجيدٌ، فهو حدثٌ كبيرٌ لا يقل أبداً عن قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، ولا عن واقعة نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، أو اعتبار المستوطنات الإسرائيلية المشادة في القدس والضفة الغربية مستوطنات شرعية، إذ اعتبر مايك بومبيو وإدارة بلاده كل المنطقة المصنفة "C" أرضاً إسرائيلية، وهي التي تشكل قرابة 61% من مساحة الضفة الغربية، الأمر الذي يعني موت ودفن حل الدولتين، وإنهاء وهم التفاوض وسراب السلام مع الكيان الصهيوني، وسقوط قناع الوساطة والرعاية الأمريكية لمفاوضات السلام.
عجزت الحكومات الإسرائيلية السابقة عن القيام بهذه الخطوة، رغم الضغوط الكبيرة التي مارستها الأحزاب اليمينية، والمنظمات الصهيونية المتطرفة، ومجالس المستوطنات وزعماؤها، إلا أنها لم تتجرأ على إعلان هذه الخطوة، وبقيت عاجزة عن القيام بها، وقد أعيتها اجراءات الدول الأوروبية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على بضائع ومنتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي ألحقت ضرراً بالغاً باقتصادها، وعزلتها تجارياً، ومنعتها من المشاركة في المعارض الدولية، وامتنعت عن دعمها بالمال وإمدادها بالطاقات والخبرات، وتوقفت عن المشاركة في الأنشطة والفعاليات العلمية والثقافية والفنية والرياضية التي تعقد فيها.
إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبت بعنجهيةٍ وكبرياءٍ، وصلفٍ وغرورٍ، وحقدٍ وكرهٍ غريبين، إلا أن تنهي سياستها البغيظة بذات السوء الذي بدأت فيه واستمرت عليه، فكانت زيارة بومبيو منصةً لإعلان المزيد من المواقف الأمريكية المتطرفة، والجديد من سياساتها اليمينية المتشددة ضد الشعب الفلسطيني، وحقوقه الوطنية المشروعه في أرضه ووطنه، وكأنها بهذه المواقف شريكة للاحتلال في كل سياساته العدوانية، بل لعلها أكثر جرأةً منه، وأشد حرصاً على المصالح الصهيونية والهوية اليهودية منه، وهو ما اعتاد ترامب على التصريح به، أو ما دأب على التعبير عنه من خلال تعيينه لمبعوثيه اليهود ومستشاريه الصهاينة من المسيحيين الانجليين المتشددين، أمثال كوشنير وجرينبلات وفريدمان وغيرهم.
فرح المستوطنون بهذا الإعلان، واستبشروا به كثيراً، وحلموا بالإقامة إلى الأبد في "يهودا والسامرة"، التي يظنون أنها عادت إليهم وقد وعدهم الرب قديماً بها، فانطلقت قطعانهم الشاردة ومجموعاتهم الفالتة، تنصب خيامها فوق الجبال وعلى التلال، وتركب البيوت الجاهزة المسبقة الصنع، بالقرب من المدن الفلسطينية، وفي مختلف المناطق المصنفة "C"، وقد وقف جنود الاحتلال يحرسونهم ويؤمنونهم، ويساعدونهم ولا يمنعونهم، بل يصدون الفلسطينيين الغاضبين، ويقفون في وجوههم، ويعتدون عليهم بالضرب، وقد يعتقلونهم أو يطلقون النار عليهم، رغم أن بعض الفلسطينيين الثائرين هم أصحاب الأرض المصادرة، وملَّاك الحقول المستباحة، التي اغتصبها المستوطنون وعزموا على بناء بؤرهم الاستيطانية فيها.
عجيبٌ أمر هؤلاء الكابوي الأمريكيين، رعاة البقر العتاة القساة، القتلة المجرمين الظالمين، السكارى المخمورين، يعتقدون أنهم بقوتهم التي أبادوا فيها الهنود الحمر وطهروا القارة الجديدة منهم، وارتكبوا بعنصريتهم أبشع مجازر الإبادة البشرية، يستطيعون قهر الشعوب وحكم البلاد، وإرغام الأمم وإخماد الثورات، وتغيير القوانين وقلب المعادلات، ويظنون أن الشعب الفلسطيني سيسلم لهم، وسيخضع لمخططاتهم، وسيقبل بتقسيماتهم، ولن يحرك ساكناً ضدهم، ثورةً أو انتفاضةً عليهم، بل سيسقط الشعب مؤامراتهم، وسيحبط جهودهم، وسيفشل مخططاتهم، رغم غنجهية القوة وغطرسة الغرور الأمريكية، وسيبقى متمسكاً بثوابته، ومحافظاً على حقوقه، ومصراً على استعادة أرضه والعودة إلى وطنه، وإقامة دولته المستقلة على كامل ترابه الوطني التاريخي
[email protected]