حاولت أن أهرب إلى دفء الحنين وإلى حلاوة الذكرى لأنجو، على طريق الفراشات، من قساوة هذه الايام التي تمر علينا وتحوّلنا إلى مجرد أجساد قلقة وشبه عاجزة، وهي تحاول، عبثًا، احتضان النهارات بشوق الزنابق للهواء.
ليلنا أفحم من ليل الخائفين من نقمة فيروس لعين؛ فنحن، العرب المواطنين في اسرائيل، ننام على نعيق غربان تحلم أن تجدنا في الصباح جيفًا، وبعضنا يلزم في هذه الايام، بيوته، ليحتمي، مثلي، من شر "الكورونا" وليحمي غيره من ضعف رئتين شاختا قبل سائر اعضاء الجسد.
ما كان أجمل أن أكتب اليوم، في هذه الذكرى المحمودة، عمن قال، قبل سقوط القمر : "نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا.." لكنني سأرجىء ميعادي معه ومع ذلك الفرح، الى ان تصفو فضاءاتنا وتستأنف الحساسين رقصها بين كروم زيتوننا والعنب وحتى يفيض الخير على الناس وتمتلىء خوابيهم زيتًا وأجاجينهم خمرًا وهدأة بال.
نأمل أن تنتهي أزمة "الكورونا" قريبًا، ودعاؤنا أن تمضي خفيفة وألا تترك وراءها ندبًا وجبالًا من الحسرة والوجع ؛ وإلى أن تُزف الينا تلك البشرى سنقاوم العتمة واليأس "وننفخ في الناي لون البعيد البعيد، ونرسم فوق تراب الممر صهيلا..".
فتزامنًا مع تزايد اعداد المصابين بفيروس الكورونا، في جميع انحاء اسرائيل، ما زالت أزمتها السياسية متفاقمة حيث تبدو جميع الاحتمالات للخروج منها واردة وبضمنها امكانية الذهاب الى جولة انتخابات رابعة.
ما يهمنا في هذه العجالة هو تفاعل المواطنين العرب وتصرفهم، ومعهم بضعة آلاف من اليهود الديمقراطيين الذين اختاروا، هذه المرة، أن يصطفوا مع من سيبقون، على جميع الاحوال، معارضة برلمانية ستقف ضد سياسات المعسكرين الكبيريين؛ وان كان أحدهما، الليكود وحلفاؤه، مفضوح الرعونة ضد العرب وضد حلفائهم، والآخر، كاحول لافان وحلفاؤه، يقترب منهم متوجسًا، بلعثمة وعلى مضض، او كما قالت العرب من خلال " قصر ذيل يا أزعر" !
أظهر نتنياهو، ومعه بعض المنتفعين المحليين وعكاكيزه ، توددًا هزيلًا للناخبين العرب؛ وحاول، في غزوة جليلية فاشلة واحدة، أن ينثر، في قاعة كانت شبه خالية من الجمهور، وعودهَ الصفراء وان يؤلب الناس على القائمة المشتركة.
لقد فشل حزبه ولم يحقق أي انجاز يذكر بين العرب، وفشلت مثله معظم الأحزاب الصهيونية التي كنست تقريبًا أو تراجعت قوتها بشكل ملحوظ في معظم التجمعات السكنية العربية وبين الناخبين العرب في المدن المختلطة.
لم يتأخر رد فعل نتنياهو على تلك النتائج المخيّبة، فلبس مباشرة جلده القديم، واعلن بكل وقاحة وغطرسة، أن لا شرعية لمشاركة نواب القائمة المشتركة في المفاوضات لتركيب الحكومة؛ وذلك بعد أن وصفهم وزير خارجيته، يسرائيل كاتس "بمخربين في بذلات رسمية".
قد تكون صرخة نتنياهو المعهودة، هذه المرة، على قدر وجعه وخسارته الشخصية؛ فهو يعلم أنّ ارتفاع نسبة التصويت بين العرب وأنّ ازدياد قوة المشتركة بنائبين كان الحائل بينه وبين حصول معسكره على أكثرية واضحه في الصناديق.
بينما هاجم، على الضفة الاخرى، بعض المواطنين المعارضين العرب والمقاطعين للانتخابات اعضاء القائمة المشتركة وطعنوا باهليتهم وبشرعيتهم في المشاركة بتبعات المشهد السياسي الذي افضت اليه نتائجها. حق هؤلاء المعارضين بمناقشة ممارسات القائمة وبرفض مواقف اعضائها محفوظ، ولكنني لا افهم من اين ينبع مصدر شرعيتهم في تخوينها والتهكم على اعضائها وتقريع بعضهم.
لقد نالت القائمة المشتركة ثقة جماهيرية واسعة، وهذه تخولها، سياسيًا واخلاقيًا، رغم أصوات بعض المعارضين، متابعة مسؤولياتها التي حمّلها أياها ذلك العقد السياسي/الاجتماعي المبرم بينها وبين ناخبيها، الذين يحتفظون، بالتالي، بحقهم في انتقادها وفي محاسبة اعضائها مستقبلًا في الصناديق.
سيكتب على القائمة المشتركة أن تتصدر مهمة المعارضة السياسية للحكومة المقبلة وسيكون دورها هامًا وصعبًا؛ لكنه سيفسح لها، في نفس الوقت، فرصتين قد تصبحا تاريخيتين: الاولى، ان ترسّخ بين الجماهير العربية طراز عمل سياسي وحدوي جديد وناضج يعتمد على عامل المواطنة كصمغ موحّد بين عدة أطياف سياسية متمايزة، وذلك من دون ان يفرط الشركاء بمفاهيمهم الخاصة ازاء مكانة الهوية الجامعة وأهمية المحافظة على الكرامة الوطنية العامة؛ والثاني، ان تأخذ دورها وتتحول الى عنوان سياسي ديمقراطي بديل، سيلجأ اليه، علاوة على اكثرية المواطنين العرب، جميع المواطنين اليهود الذين يفتشون عن مستقبل لدولتهم، غير مبنيّ على استعمار شعب آخر واضطهاده، وعلى اقصاء خُمس مواطني الدولة، واعتبارهم إما "مخربين او صراصير "، كما تفكر أكثرية اعضاء هذه الكنيست الحالية.
يبعث انجاز المشتركة وتأثيره الفعلي القائم على الساحة السياسية الاسرائيلية نسمة من أمل في نفوس الكثيرين من عرب ويهود؛ ورغم مهاجمتها من اكثرية القوى الصهيونية، نجحت باستقطاب آلاف المصوتين اليهود وباهتمام غير مسبوق في وسائل الاعلام المحلية والعالمية. لقد سمعنا بعض الاصوات اليهودية التي عارضت موقف نتنياهو ازاء شرعية وحق الناخبين العرب، وقد يكون موقف رئيس الدولة، رؤوبن ريفلين، من أبرزها، فهو قد رفض تلك التصريحات وانتقدها، على الملأ، بشدة حيث أكد على "عدم وجود انصاف مواطنين في اسرائيل".
لم يكن الرئيس ريفلين وحيدًا بموقفه هذا؛ ففي مقابلة لافتة لصحيفة "معاريف" الاسرائيلية، أجرتها مع رئيس الموساد السابق، تمير بيدرو، بتاريخ 27/2/2020 ، قال، بشكل واضح وحازم: "لقد وصلنا الى حالة يعتبر فيها كل من لا يوافق على أمر ما سياسي خائنًا. هذا امر رهيب وخطير . فمن غير اللائق اعتماد دعاية اليمين ضد رئيس اركان سابق ومنعه من الجلوس مع العرب لمجرد تصويرهم كأعداء للدولة. فانا اترقب مجيء اليوم الذي ستكون فيه الاقلية العربية جزءًا من الحكم، ولا اريد ان يقول أحد لليهود الأمريكيين، انتم لا تستطيعون ان تكونوا جزءًا من الادارة والحكم".
تحمل هذه التصريحات مؤشرات هامة لا يمكن اغفالها او التهكم عليها، وذلك ليس لمكانة وهوية قائلها فحسب؛ بل لأنها تكمّل، اذا ما وضعت في سياقات ملائمة، مفهوم قضية المواطنة ومعنى المشاركة السياسية في العملية الانتخابية البرلمانية واهدافها المرجوة في نظام حكم مبني على مبدأ الفصل بين السلطات وسيادة القانون ومساواة جميع المواطنين امامه.
أعرف ان اسرائيل اليوم تبتعد عن هذه التعريفات وتنحو نحو نظام حكم عنصري ذي نزعات فاشية؛ ولأننا نعرف ذلك علينا تلمس الخيارات المواطنية الديموقراطية الاخرى والاصرار على ايجادها وتطويرها، وهذا كما يبدو لي دور القائمة المشتركة، بتركيبتها الحالية أو بغيرها اذا اقتضت الظروف، ومعها سائر المؤسسات المدنية والاهلية، وعلى رأسها اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، ولجنة المتابعة العليا التي، كما قلنا مرارًا، تحتاج إلى اعادة بنائها بما يتلاءم مع هذه الرؤية وهذه الاهداف.
نواجه في هذه الايام محنتين صعبتين، فلنصلي لنقهر الوباء بما سيؤمّنه العلماء من أمصال ودواء؛ ولنعقل كي نبقى أحياء "داخل القطار" ولنكتب "أسماءنا حجرًا، أيها البرق، أوضح لنا الليل، أوضح قليلا .. " . فنحن قوم نحب الحياة وسنجد اليها السبيلا.
[email protected]