ها هو تشرين الثقيل على نفوسنا وقلوبنا يحل ضيفا أكثر ثقلا وحزنا هذا العام، فالغالي قد رحل في أيار القريب تاركا أثرا طيبا من جهة، وحملا ثقيلا من جهة ثانية، ليصل تشرين المجزرة وذكرى تهجير عيلبون بغياب الوالد طيّب الذكر للمرة الأولى في حياة العائلة حياة القرية وللمرة الأولى د ن أن تدوّن أحداث قيّمة من خابية ذاكرته التي صارعَت الزمان والمكان، صارعَت المرض والتعب حفاظاً على تاريخ قاسٍ حمّلك أنت تحديداً أمانة تدوينه ونشره للعالم أجمع فتحكي للعالم تحكي له، تشكي دون أن تبكي، وهو وعد قطعته على نفسك.
حلّ تشرين النكبة هذا العام ليلقّنك درسا قاسيا مفاده أن موت الأحبّاء ليس أعظم المصائب، فالموت حق على كل من ولد على هذه الأرض، أما المصائب بشرية الابتكار والصنع فإنها كما الخنجر في القلب يجرحك فلا يميتك تاركا إيّاك تنزف حبا، قلقا وأسى لا يُنسى مهما حاولت.
ها هو تشرين يمتحن حبك للطبيعة، فتنكشف لك فجأة وقفة الطيور على الأغصان العارية المتمايلة بثبات حتى بعد أن خلعت الأشجار أوراقها، تنفتح أمامك اّفاق شاسعة...عوالم جديدة وفضاءات سماوية مذهلة ومخيفة في اّن.
أتراك قادر على اكتشاف أغوارها؟ وإن ملكتَ المقدرة على الاكتشاف فهل تمتلك الجرأة على الافصاح عمّا اكتشفت!؟ أمستعد أنت لدفع الثمن مجدّداً؟ ثمن معرفتك للحقيقة!؟ أمستعد أنت لتقبل حقيقة لخّصها بيت الشعر
“رأيت النّاس قد مالوا إلى من عنده مالُ
“ومن ليس عنده مالُ فعنه النّاس قد مالوا
ها هو تشرين المجزرة يمتَحنُك من جديد محوّلا إيّاكَ لشجرة تكتفي بذاتها في مغالبة الرياح العاتية منها والمدمرة، مدرك هو أنّكَ أصيل عميق الجذور، منتصب القامة ومرفوع الرأس بشمم؛ وفخر بتربية أمك وأبيك على الصدق والمصداقية، على المحبة والتضحية، لأسرتك وأفرادها كبيرا وصغيرا علّك تساهم في تقويم اعوجاج أحد فروعها واجتثاث كل ما لا يليق بوالدتك الطيّبة وذكرى والدك المعطرة بالحبق والياسمين والزعتر. تحاول سرا وعلانية الحفاظ على الغوالي في شدتهم على حساب وقتك وجهدك، مستنفذاً كل طاقاتك, خبرتك معرفتك، حنانك ونواياك الطيبة لهذا الهدف النبيل رافضاً تركهم كريشة في مهب الرّيح، مدركاً بداخلك “أن لا ذنب للريح إن كان أحبابك من ورق.”
ها هو تشرين الخريف يظهر زيف أشجار ضعيفة مهزوزة سرعان ما اصفرت أوراقها وتساقطت أمام أول موجة ريح لتنكشف أغصانها فتظهر دواخلها واضحة للعيان، فلا أوراق تسترها ولا ثمار تستعيض بها عن تقصير أو نوايا سلبيّة تُخفيها، إنه خريفٌ تشريني بامتياز قادر هو على إظهار عظمة الأشجار دائمة الخضرة المعطاءة دون حدود وهكذا فإنه يكرّمك كشجرة لا يزول اخضرارها ومحبة عطائها طوال العام.يصفعك تشرين لتفهم (أنك لا تحصد ما زرعته يداك فقط، وإنما ما زرع أسلافك من قبلك وقد تحصد زرعا لوثه الحاقدون من حولك في غفلة منك.
تدرك تماماً وصيّة والدك بضرورة اكتراثك بمن حولك من الطيبين والأحباب خوفا من تربّص الخبثاء بك وبهم فيكيدون لكم الشر، تسعى لتدثّرهم بعباءة أوراق شجرتك اليانعة مليئة المحبة والاهتمام ، يصدمك الواقع، (قرشك وذراعك) هما ما يضمن لك الأمن والأمان فقط، أما عقلك وفكرك الناضج لا مكان له في سوق النخاسة، وطبعا لا وقت لقلبك النابض رقيا
وأصالة، وهكذا فإنّك تدفع ثمن محبّتك وإدراكك من جديد.
ها هو تشرين المجزرة والتهجير يزيل تهمة الكيد عن بعض النساء ليؤكد أن كيدهم هو الاّخر عظيم وأكثر خطورة خاصة حين يتغذّى من كيدهن، فتعي أنّ من كانت بلا كيد أكلتها الكائدات وضعاف النفوس. جذورك راسخة عميقاً في أرض الوطن ورحم والدتك التي تمدّك بالهواء والماء، بالغذاء وحتى الدواء، لست بحاجة للمرائين والمخادعين وطبعا لستَ بحاجة للمنتفعين الانتهازيين، قادر على تمييز المصطادين بالماء العكر ولن تسمح لأي سخيف منهم بجرّك للماء الملوّث، فمجتمع يتبارى أفراده مَن منهم أكثر نفاقاً، مجتمع يرتكب أفراده الخطأ تلو الاّخر ويرميه واضعا اللوم على غيره، لن تقوم له قائمة ولن ينصلح حاله، سيمشي إلى الخلف حتى يندثر. فمن لا يعترف بذنبه ويتهرب من مواجهة نفسه وغيره ويؤكد ضعفه وسوء نواياه لن يبني وطناً ولن يعيد كرامة مسلوبة.
تشرين المجزرة القذرة بحق أبناء عيلبون والتي لم يحاسب عليها المجرمون بدت لك يوما أبشع الجرائم، ليثبت هذا الشهر أن هناك جرائم أخطر بحق الإنسانية على الصعيد الفردي والمجتمعي لا تدخل أصلاً ضمن لوائح القانون.
. “إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت إن ذهبت اخلاقهم ذهبوا”
“ كلما تقدم العمر وتراكضت السنون نحو الامام.... كلما بات الماضي اقرب منك واليك”
فحياتنا كروية هي الاخرى كما الكرة الارضية، فاحذر أيها الإنسان وتذكّر قول السّيّد المسيح:
“ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه”.
أما أنت الذي لم ولن تساوم يوماً على نفسك ومبادئك وكنت ساطعاً كالشمس يكفيك فخرا كل ما حققته ووصلت إليه بقواك الذّاتيّة ليس إلا، حب وطنك الخاص كما العام هو بوصلتك، إيصال رسالة أبيك عن تاريخ عيلبون وفلسطين هو نبراس لن تنساه. تشرين هو الوقت المناسب لغربلة وتنخيل ذاكرتك احتفاظا بالجميل لتنسى الثقيل رغم أنّ الأسى ما بِنتَسى ،وظلم ذوي
القربى أشدّ مضاضة. تشرين قرين أيّار زرع بداخلك محبة أكبر لاسمك الذي أضَفت له ثقلاً وزخماً، شمماً وكبرياء فزيّنَت كلَّ ما حولك بفحوى زهر الرّند ورائحة الريحان والأرجوان..
هذا الاسم وقد اختاره أبوك وملأ مسمّاه بالثقافة والفكر الناقد الوضّاء... لك أنت.
هذا الاسم وقد طرّزته أمك بماء الذهب ومسك الروح كما عنبر القلب... لك أنت.
هذا الاسم والمسمى سيبقى عاليا ومثمراً كشجرة نخيل باسقة..
بفضل قساوة تشرين اتضّحت الرؤيا لديك تماماً وها أنت تتّخِذُ قرارك وتمضي قدماً لتحيا وتعيش كما لم تفعل من قبل، مستمراً بنثر ورود المحبة، بذور الثقافة وشذا الأخلاق أينما حلَلت. في حين يتذبذب البعض متخبطين مذعورين من خيالاتهم مختبئين خلف أصابعهم الملوثة، أنت على حالك، لن تغيّرك الرّيح ولا المغرضين..
يغادرك تشرين الأوّل محمِّلاً إيّاك وزرا جديداً وثقيلاً، تعد نفسك وأسرتك أنك كما الجبل لن تهزّك الرّيح، ولن تتمخّض يوماً لتنجب فأراً.
ها أنت وبعد أن اتضحت رؤيتُك تقرّر أنك أنت من سيترك تشرين وستعمل جاهداً على ترك أيّار ولن تسمح لهما ولا لأبنائهما بالعبث بروحك بعد اليوم..
[email protected]