شهدت الأيامُ القليلة الماضية حملةً قاسية شنتها شركة فيسبوك، على مجموعةٍ كبيرةٍ من النشطاء والمثقفين والكتاب الفلسطينين، فأغلقت صفحاتهم، وحظرت أسماءهم، وحفظت هواتفهم، وعمدت إلى إغلاق كل صفحةٍ جديدةٍ يلجأون إلى فتحها، سواء كانت بأسمائهم العربية أو الانجليزية، أو تلك التي تحمل صورهم وفيها بعض المعلومات الخاصة بهم، وكنت واحداً من بين مئاتٍ طالهم الحظر والشطب والمنع، فيما يبدو أنها حملةٌ مقصودةٌ وقرارٌ مدروسٌ، وكأن هناك من يحرضهم على الشطب، ويدفعهم على الإغلاق، ويزودهم بالأسماء والبيانات، ويجدد دورياً معلوماته الخاصة التي يقدمها للشركة، لتبقى يقظة وحاضرة، تقف بالمرصاد لكل حسابٍ جديدٍ تشتبه به.
لم يعد الأمر خافياً على أحدٍ، ولسنا بحاجةٍ إلى كبير جهدٍ أو عظيم عناءٍ، لنعلم أن السبب وراء إغلاق الشركة لصفحات مئات المثقفين والكتاب الفلسطينيين، هو نشاطهم الدؤوب، ولسانهم الحر، وقلمهم السيال، وفكرهم الوقاد، وصدق لهجتهم، وقوة حجتهم، وفصل موقفهم وبيان كلمتهم، الأمر الذي من شأنه أن يغضب العدو الصهيوني ويستفزه، ويقلقه ويستنفره، فكيانهم يشعر بخوفٍ ممن يفضح سياستهم، ويكشف حقيقتهم، ويظهر سوأتهم، ويسلط الضوء على عيوبهم، ويعرف العالم بمخازيهم، ويفند بموضوعيةٍ خرافاتهم، ويبطل بالعلم أساطيرهم، فهو كيانٌ يقوم على تجهيل الضحية، ويريد أن يحرمها من وسائل تواصلها مع المجتمع الدولي، ويتطلع إلى القضاء على آليات عملها وفاعليتها.
وفي المقابل فإننا نحن العرب والمسلمين نفتقر إلى وسائل بديلة وآليات عملٍ مشابهةٍ، واكتفينا بما قدمه الغرب لنا وسمح لنا باستعماله، لا كرماً وجوداً منه، ولا حسن أخلاقٍ فيه، وإنما ليستغلها في جمع المعلومات التي يريدها منها، وليحصل على ما لا يستطيع الحصول عليه من غيرنا، وليتمكن من اختراق مجتمعاتنا، والدخول إلى خصوصياتنا، وتسميم ثقافتنا وتغيير عاداتنا وتبديل قيمنا، ولعله نجح إلى درجةٍ كبيرةٍ في تحقيق أهدافه من خلال قبولنا بوسائله واعتمادنا عليها، وخضوعنا لشروطهم، التي لا تكف عن طلب المزيد من المعلومات الخاصة من مستخدميها، ولا يبدو أنه سيكون هناك بديلٌ عربيٌ أو إسلاميٌ آمنٌ، ينسجم مع قيمنا ويتفق مع ثقافتنا، ويحترم خصوصياتنا ولا يخترق حرماتنا.
ورغم أنه يستفيد من استخدامنا لأدواته، ويحقق مكاسب مادية من خلال خدماته التي يقدمها، إلا أن الغرب الذي هو المالك الحصري لهذه الشركات، والمتصرف السيد والوحيد فيها، فإنه يطردنا منها متى يشاء، ويشطب حساباتنا من شركته إذا أراد، ويلغي اشتراكاتنا عنده إذا رغب، فنحنُ عندهم لسنا أكثر من مستأجرين بشروطه، ونزلاء في نُزِلِهِ وفندقه، يسمح لنا بالإقامة فيه إذا إراد بعد أن ندفع له البدل الذي يريد، ويخرجنا منها إذا شاء ولو كنا ملتزمين بشروطه وخاضعين لأحكامه.
إنه لمن المعيب على شركةٍ عالميةٍ كبرى، متعددةِ الجنسياتِ وعابرةٍ للقاراتِ، يشترك فيها أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، وتدعي أنها تقدم خدماتها للإنسان عامةً، ولا تفرق بين سكان الأرض على خلفية انتماءاتهم السياسية، أو أصولهم العرقية، أو ألوانهم ولسانهم ودينهم، أن ترتهن لكيانٍ وصفته الأمم المتحدة بأنه كيانٌ عنصري، وأنه دولة احتلالٍ واغتصابٍ، تخالف أنظمة الأمم المتحدة وتنتهك قوانينها وترفض الالتزام بقراراتها، إلا أنها رغم عنصرية هذا الكيان وحكومته، وظلمه وعدوانه وتمرده، إلا أنها تأتمر بأمره، وتنفذ سياسته، وتلتزم بتعليماته، وتطبق القواعد والنظم التي تخدم مشروعه، وتحظر كل من يقاومه أو يخالفه، أو يحرض على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني منه.
فهل نسمح لهذه الشركات ومن يديرها ويشرف عليها ويتابعها بتحقيق أهدافها من وراء إغلاق حسابات المثقفين والمفكرين والكتاب، وهم بلا شك إسرائيليون وصهاينة، أم نتصدى لهم ونتحداهم، ونقف في وجههم ونقاومهم، ونحاول أن نكون سنداً لمن أغلقت صفحته وتعطل حسابه، ونقوم مقامهم وننوب عنهم، فننشر ما يكتبون، ونعمم ما يريدون، ونسخر صفحاتنا كلها لهم، ونفتح منابرنا لكلمتهم، ونفسح المجال في صحفنا ومجلاتنا الورقية والاليكترونية لابداعاتهم وعطاءاتهم، فانشروا بكثافة، وعمموا بعنادٍ، واستمروا بعزمٍ وإيمانٍ.
وفي هذه المعركة التضامنية مع الحق يتساوى الفلسطينيون والعرب والمسلمون، وتشترك فيها المرأة إلى جانب الرجل، والشيخ والكهل مع الشاب والصبي، والطالب والعامل مع الأستاذ والموظف، فالكل مطالبٌ أن يساهم في معركة التنوير بجزءٍ من صفحته، وببعضٍ من جهده، وبزاويةٍ من موقعه، وبرابطٍ في حسابه، فبهذا نتضامن مع الممنوعين من النشر من كتابنا، ونفشل مخططات العدو، ونرد سهمه الذي أراد به لنا مقتلاً إلى نحره، ونثبت فعلاً أننا جميعاً في معركةٍ واحدةٍ، جنوداً في الميدان، ومقاومين في الفضاء الافتراضي، نتضامن معاً ونتآزر سوياً، لنستحق النصر ونستأهل الشرف والكرامة.
[email protected]