كأنّ مُحيطها يوحي بالموت؛ البردُ قارسٌ، وموشومٌ بلونِ الدّم هذا الصّباح.. الرّائحةُ كريهةٌ، ومَمزوجةٌ ببصماتِ رصاص.. مقبرةٌ القريةِ مهملةٌ، والأحياء بِها غدَوْا مُجرّدَ خشبٍ منخورٍ، تسندُهُ أرواحٌ غارقةٌ في بَحرٍ من الاكتئاب.
تشعرُ بالرّهبة، ومع ذلكَ تحاولُ تَجريعَ نفسها بقوّةٍ فلتَتْ منها لِهَوْل حَدَثٍ يعاودُها؛ تطاردُها الصّورُ، ويُلازمُها الجرحُ الغائرُ في الرّوحِ، وأدندنُ:
"يُمّا مْويلي الهوى يُمّا مْوليّا
ضَرْبِ الخناجر ولا حُكْمِ النّذلِ فيّا"
تتذكّرُ أنّها سمعتْ هذهِ الأغنيةَ الوطنيّةَ قبلَ حوالي إحدى عشرة سنة.. لَم تسمعْها بعدَ ذلك، ولَم تحاولْ حتّى دندنتَها على مدى هذهِ الفترة، إلاّ أنّ كلماتِها بقيَتْ محفوظةً عن ظهرِ قلبٍ في قلبها حتّى هذه الساعة.
مَشاهدُ مِن الماضي البعيدِ تتجسّدُ أمامَ اللّحظةِ الضّبابيّةِ دونَ سابقِ إنذارٍ، ودونَ تَخطيطٍ أو شعورٍ تَنتفضُ لا إراديّاً.
حبّات عرقٍ تتلألأُ على جبينها، وتنصبُّ ألَماً يُعانقُ دموعاً تَخونُها مِن جديد.
الزّمنُ: صيف (1994).
المكانُ: الشّارع العموميُّ في مدينة بالضِّفة الغربيّة.
إنّهم يتراكضونَ، لكنّ الجنودَ يُحاصرونَهم مِن كلِّ حدبٍ وصوْب.
نريدُهُ بأيِّ شكلٍ مِنَ الأشكالِ.. يَجبُ القبضُ عليهِ اليومَ والآن.. معلوماتُنا دقيقةٌ، إنّه الأرمنيُّ.. سيمُرُّ مِن هنا.. هذا ما أكّدَهُ رجُلُنا هناك.. استعدّوا يا جنود.. يتحدّثُ قائدُ الجيشِ في منطقةِ رام الله لعشرةٍ من جنودِهِ وأتباعِهِ، بعدَ أن وزّع عليهِم صورته.
أضافَ قائدُ الجيشِ: رجُلُنا قالَ بأنَّ مظاهرةً كبيرةً ستجوبُ الشّوارعَ.. احْرِصوا على أنْ لا يفلتَ مِن بينِ أيديكُم.. أريدُهُ حيّاً أو ميتاً.. أريدُ أن أجعلَهُ عبرةً لِمَن لا يعتبرُ.
كان وحيدَ أهلِهِ، وعاشقاً كبيراً للحرّيّةِ.. كانَ سلاحُهُ الحجرُ، والإرادةُ القويّةُ، والإيمانُ بالنّضالِ ضدَّ كلِّ فاسدٍ، ومُفْسِدٍ طاغيةٍ.
أمّهاتُ المخيّمِ تَمنّيْنَ مِن الله أنْ يهبَهُنَّ أبناءً مثلَه لا يَخافُ لوْمَةَ لائمٍ.
لكن.. كأنّهُ الموتُ كانَ على موعدٍ معه في سوادِ ذلكَ اليومِ الأغبرِ، بعدَ أن تربّص بهِ الجنودُ في كلّ الزّوايا والدّروبِ؛ رمَوْهُ برصاصِ الغدرِ دونَ رحمةٍ.. سقطَ.. عاودَ النّهوضَ والرّكضَ.. لكنّهم لحقوا بهِ.. أمسكوهُ وطرحوهُ أرضاً، ثمَّ قيّدوا رجْليْهِ بِحبلٍ، وربطوهُ إلى سيّارةِ جيبٍ تَجرّهُ مُمرّغاً بدمائِهِ وترابِ بلدِهِ.. جالوا به الشّوارعَ بنرجسيّةٍ وقحةٍ وبتعالٍ مَمقوتٍ.
أحدُ الجنودِ كانَ يُردّدُ: لقد قضيْنا عليهِ.. سيكونُ عبرةً لِمَن لا يعتبر.
صرختْ صبايا: قتلوه.. مات.. رحلَ العريس..
صرختْ خطيبتُهُ المفجوعةُ بِموتِ حُلمِها: اللّعنةَ على الخونةِ والمدسوسين والمتصهينين..
اختطفَ الشّبابُ الأوفياءُ الجثّةَ قبلَ أن يُدنّسَها الجنودُ ويُمثّلوا بتفاصيلها البريئةِ، وأخفَوْها عن العيونِ المراقبةِ للحدثِ الجَلَلِ.
انتشرتِ الصّاعقةُ بينَ أبناءِ المدينة وفي ضواحيها الصّامدةِ.. هرعوا بالتّوافد إلى النّادي، والكلُّ يسعى للمشاركةِ في تنظيمِ جنازةٍ تليقُ بالبطل.
في اليومِ التّالي، وبعدَ تشييعِ جثمانِ الشّهيدِ في كنيستِهِ، فُتحتْ أبوابُ النّادي على مصراعيْها في استقبالِ وفودِ المُعزّينَ الغفيرةِ، فإذا بصوتِ عجوزٍ يصرخُ فجأةً: اخرجي مِن هنا أيّتها العميلةُ فأنتِ السّببُ.. أنتِ وزوجُك وأولادُك.. لقد قتلتموهُ واليهودُ.. ماذا تريدونَ بعْد؟ اخرجوا مِن هنا.. لا مكانَ لكم بينَنا.
[email protected]