هذه القصّة لكاتب قصص الأطفال المربّي سهيل عيساوي الصّادرة عن دار الهدى هذه السّنة 2017. كقصّة يكتبها كاتب يكتب للأطفال هذا لا يضعها في هذه البوتقة أو في هذا المضمار؛ فهي قصّة نعم للجيل الغضّ لكنّنا يمكن إسقاط مفهومها على الواقع المعيش والّذي يوازيه الكبار.
سأحاول التعرّض للقصّة وفقًا لمعايير تخضع للنّظام السّيميائيّ الّذي يعنى بالدّلالة وقصديّة الكاتب.
ينبغي ألّا ننسى أنّ هناك عدّة محاور تلازم النّصّ الأدبيّ أيًّا كان، وتُضفي محلّيّته عليه؛ منها الواقع، الكاتب، النّصّ والقارئ. والكاتب بدوره واقعيًّا ينظر إلى واقعه المحيط، فينتخب موضوعًا واقعيًّا أو قريبًا منه يعاينه ويشخّصه ويضفي عليه لمساته الفنيّة الضّروريّة لإبداع النّصّ.
في القصّة يدور الحديث عن ملك يعيش في مملكة، وتتناوبه الكثير من الأزمات والمعاطب تُكاد له من الخارج دون السّيطرة عليها.
القارئ هنا ينبغي أن يكون قريبًا من النّصّ فالحديث عن نصّ محلّيٍّ، لا سيّما وأنّ القارئ يلوذ بنصّ قريب من بيئته ووجدانه، لا ينفكّ عن قراءته، ويُسبغ عليه معانيَ ودلالات من عنده. فالكاتب ينوء كاهله بهمٍّ كبير، ويريد إرضاء قارئه بحيث لا يجعله خارج ظلال عمله الأدبيّ.
والآن سأتناول القصّة على ضوء الرؤية الرّباعيّة التّالية:
أوّلًا: اِختزال القصّة_ الحديث في القصّة عن الملك فهمان الزّمان، فهو حقيقة فهمان وحقيقة صفاته تدلّ على شهامته وحرصه على جعل المملكة في العلاء والرّقيّ الحقيقيّ المتمثّل في العلم والثّقافة والحضارة. هذا الملك يعيش حياة ملؤها السّعادة والأمان، فهي أشبه بملكة فاضلة أفلاطونيّة تطمح للمثاليّة أو اليوطوبيا (utopic). تتحرّك وفق رعاية ملِكِها الصّالح وتتحرّك الأحداث وفق القطب الإيجابيّ، وهذا يُثير حفيظة الوزير "فايق الزّمان"، الّذي يمقتُ العلمَ ويستشيط غضبًا، فلا يستطيع أن يسمع بكتاب أو مؤرّخ أو فلكيّ (انظر القصّة ص 10 وما بعدها).
تدور الدّائرة على الملك فهمان الزّمان، فما يلبث أن يُطاح به ومملكته بتدبير من الوزير، ويوضع الملك بين غياهب السّجون ويُعتقل جميع الكتّاب والعلماء والباحثين وتُصادر جميع الكتب وتُجمع في سجن المملكة الكبير...
لكنّ الوزير الّذي وصل الحكم بقوّة السّيف والتّهديد لم يصمد في الحكم مدّةً طويلةً، إذ أنّ مملكة النّور تتحوّل إلى مملكة الظّلام والفقر والجوع والفساد والتضخّم التّجاريّ الكبير.
نظرًا لعزوف الحاكم عن رؤية موضوعيّة ثاقبة في ريادة المملكة، يؤول أمره للهلاك والموت
المبين عندما وقعت رفوف المكتبة عليه ولم يُسعفه أمهر الأطبّاء في اِستعادة صحّته، وظلّ في تدهور متتابع وفارق الأعوان والمساعدين، ومن بعد ذلك يعود الملك فهمان الزّمان إلى حاضرة العلم، بعد الإقصاء والحبس الأرعن؛ وبذلك تعود الحياة إلى سابق عهدها تحفل ببشائر الخير ومواسم البركة (القصّة ص 29).
ثانيًا: المعنى في القصّة_ لا ينفكّ عن بال القارئ أنّ القصّة في أبسط معانيها تتحدّث عن الملك الصّالح الحاكم مملكة النّور وفق قاعدة من المعرفة والصّلاح والوفاق والازدهار في كلّ المرافق. لكنّ الأمر لم يرق للبعض؛ فيُكاد للملك فهمان الزّمان ويُخطّط للاِنقلاب، ويكون الأمر كذلك كما يُراد له ضاربين بالقانون والثّقافة والاِزدهار الاِجتماعيّ عرض الحائط. هذا همّ الفئة المنتفعة في كلّ ممالك الأرض الرّافضة للإنسانيّة والّتي تحكم شعوبها بالحديد والنّار وكمّ الأفواه الّتي تنادي بالحريّة والقراءة والازدهار الثّقافيّ والاِجتماعي...
لا يستقرّ الوضع القاتم على المملكة، إذ سرعان ما يُباغَت الوزير وهو هنا المنقلب على الملك الشّرعيّ، بأمور لا يتوقّعها وبعدها يفقد كلّ شيء من حوله.
حالة من حالات عدّة قرأناها أو شاهدناها في واقعنا المحلّيّ، وإن كان المعنى المُستخلص من هذه الأحداث واضحًا للعيان وذلك في ضرورة عدم التّنازل عن القيم السّامية والتّعامل الوجدانيّ مع عامّة الناس، بل إنّ هذا الأمر هو ما ساعد الملك أن يعود إلى مملكته مُجدّدًا بعد إقصائه.
وإن كانت القصّة للأطفال إلّا أنّها تحمل في طيّاتها معاني سامية؛ تعلّم الطّفل ألّا يستسلم للظّلم بل يجب بذل قصارى جهدنا لاِسترداد الحقّ والصّلاح، إذ لا بدّ للخير والعدل أن يعود للحياة، هذا إذا صدقنا مع أنفسنا لاسترجاع الخيريّة إلى أصحاب الحقوق الشّرعيّة. وهذا ما كان في قصّتنا هذه...
3: الدّلالة في القصّة_ إنّ المعنى برمّته يوصلنا إلى دلالة واضحة تتمثّل في ضرورة معرفة الحقّ والواجب الحقيقيّ. هذا الواجب الوطنيّ الّذي يحمله الإنسان الشّريف، حامل همّ الأمّة والحياة الواضحة مبتعدًا عن الزَخرفة الفارغة!
القصّة تطمح لأرسال دلالة واقعيّة كونها منتزعة من الواقع بمفهومها الّذي يتقاطع بنظري مع كلّ الفئات العمريّة، كون القصّة تطرح موضوعًا جديرًا بالأهميّة. القصّة بمجملها تدعو إلى ضرورة أن نقرّ الحقّ بيننا وننبذ الباطل والظّلم الّذي لا يأتينا بخيرٍ أبدًا. الحاكم الّذي يذلّ أهله ووطنه ومجتمعه ومثقّفيه وعلماءهُ، هو ليس منّا ولا نشرّعه تحت أيّ ظرف من الظّروف، بل يجب إقصاءه عن عمله عاجلًا غير آجل. وهذا الواقع المطروح نشهده في واقعنا المعيش فكم من حاكمٍ أذاق شعبه ووطنه العذاب والهوان والتّشريد والقتل من أجل أن يظلّ آمرًا حاكمًا محفوفًا بالصّون والجلال. لكن يجب أن يتذكّر أنّ هناك من هو أقوى وأكبر منه، فقد يتبدّل الأمر بين عشيّةٍ وضُحاها، ونقول في هذا السّياق إذا دَعتْكَ نفسُكَ إلى ظلمِ النّاسِ فتذكّرْ قوّة الله وقدرَته،
فهو القاهر فوق عباده. وعلينا أن نتعلّم من قصص التّاريخ، وأنّ الظّلم يؤول إلى الهلاك والنّدم، والواحد يقوى بإخوانه وبأفراد مجتمعه هذا كان قريبًا منهم حقيقةً وإلّا نبذوه لأنّه عالة لا يُرتَجى الخير منه. هذا ما لمسناه في القصّة حين اِنتشر خبر وفاة الوزير في المملكة؛ عندها هتف النّاس بحياة الملك فهمان الزّمان وأعادوه إلى السّلطة...
الدّلالة تتعدّى صورة الواقع المباشر، وما ينقله الكاتب إلينا من أحداث مؤطّرة بمكان وزمان مُحدّدَيْنِ، ومن الممكن حملها إلى واقعنا المحلّيّ، فمن الضّروريّ أن يستنفذ الحاكم المفوّض من قبل الشّعب كلّ طاقاته ويسخّرها لخدمة شعبه، وإلّا كرهوه واَنتظروا لحظة إقصائه عن سُدّة الحُكم. وهذا ما حصل، بحيث عادَت السّلطة إلى نصابها والحقّ إلى أهله، ما أثّر على خاتمة القصّة فقد انتهت بنهاية سعيدة مفتوحة بترميز من الكاتب، وهذا ما ندعوه في النّقد الإشارة إلى الآتي بتلميح، وقد لمسنا ذلك قبل اِختتام القصّة فالإيجابيّة ظهرتْ قبل نهاية النّصّ السّرديّ، وهذا ما ندعوه التّلميح قبل الخاتمة ( pre clusier) بتعبير سوزان لهوفير.
4: القصديّ في القصّة_ لا بدّ من الإشارة بشكل مطلق إلى أنّ معرفتنا لقصد الكاتب في نصّه القصصيّ بشكل دقيق غير واردٍ، وإنّما نحن نقوم بعمليّة تأويل أو إعادة قراءة النصّ من جديد، وما نقوم به حقيقةً هو مقاربة بنيويّة للقصد. لذا بات السّؤال عن قصد الكاتب غير دقيق البتّة من وجهة التّحليل السّيميائيّ الّتي يقوم عليها تحليلُنا! وهنا وإن كنت أشير إلى قصد الكاتب، فمن
الممكن القول أنّ الكاتب لم يكن لِيُضحّي بعمله من أجل فكرة ساذجة أو هامشيّة؛ وإنّما أراد أن يوصل إلى القارئ الصّغير والكبير رسالة مؤدّاها ما تحملُه القصّة من قيم ثقافيّة تربويّة وأخلاقيّة. وقصّتنا ترتكز على الرّسالة الإيجابيّة في ضرورة الاِعتداد بالأخلاق والنّهج السّليم في ضرورة القراءة كقيمة عليا لا يمكن التّنازل عنها أبدًا.
الحاكم فهمان الزّمان هو النّموذج الواقعيّ الإنسانيّ، والّذي أراد نشر الوعي بين النّاس جميعًا، فلم يأل جهدًا في العمل على رصد الكتب وبناء المكتبات والكليّات العلميّة بشتّى أصنافها...
أرى أنّ الكاتب عيساوي يريد من الطّفل والكبير كذلك أن يكون قارئًا نافعًا ومنتفعًا في بلده ووطنه، لا يبتعد عن جادّة النّهج السّليم والمنهجيّة في تأصيل بناء الطّفل السويّ في توجّهه إلى البحث عن الحقيقة واستخراجها من بطون الكتب ودوائر المعارف والعلوم الإنسانيّة والأدبيّة.
الكاتب يُلفت اِنتباهنا على طول القصّة إلى ضرورة اِبتياع الكتاب والبحث عن الثّقافة والمعلومات بنَهمٍ والاستزادة من نور المعارف وحركيّة العمل الدّؤوب في سبيل بناء الذّات والشّخصيّة الواعية العاملة والمسؤولة على نشر العلوم واستخراج التّجارب والوعي الجماعي من مكنونها. إنّه تنبيه (Attention) من الكاتب إلى العمل بمنهجيّة والقيام بأمانة والحرص على بناء الإنسان كلّ الإنسان والأخذ بيده نحو المعرفة الدّقيقة، دون أن يشوبها شكّ وهذا ليس هيّنًا، فهو يتأتّى بالإرادة الصّلبة والقدرة الحكيمة على تنفيذ القرارات الصّائبة مهما كانت الظّروف قاتمة، وهذه دعوة
مفتوحة للتمعّن والتبصّر.
أخيرًا أرجو للكاتب إبداعًا متميّزًا ومزيدًا من العطاء الأدبيّ والفكريّ يعود بالصّلاح على أبنائنا.
[email protected]