زياد شليوط
قبل أربعين عاما وبعدما أنهينا الاحتفال بالذكرى الأولى ليوم الأرض الخالد، جاءنا خبر رحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، حيث كنا نتسقط أخبار رحلته العلاجية الى بريطانيا، وكنا قد سمعنا المكالمة الهاتفية الأخيرة من لندن مع اذاعة "الشرق الأوسط" القاهرية، وهو يطمئننا ويطمئن جمهوره بأنه سيعود قريبا الى مصر، ليحيي حفل شم النسيم ويقدم أغنيته الجديدة. لذا جاء خبر وفاته صادما، خاصة وأن أبناء جيلنا نشأوا على صوت عبد الحليم، وطالما حلقوا في أحلامهم ورؤاهم وهم يستمعون الى أغانيه العاطفية، وآمنوا بأن شمس القومية لن تغيب عن الأرض العربية. وأصابتنا حالة من الذهول والحزن الشديد، حيث هوى ملك الأحاسيس والمشاعر العاطفية في الأغنية العربية، الفنان المميز الذي عبر عن مشاعر جيل بأكمله، وهناك من اعتبره ظاهرة عابرة أو لن تصل لمستوى عمالقة الفن في ذاك العصر، لكن مرور أربعين عاما على رحيله في 30 آذار منعام 1977، وهو ما زال يتربع على عرش الأغنية العربية العاطفية والوطنية خاصة، ويملأ الدنيا بأغانيه التي لا تنافس سواء عبر الاذاعات والشاشات أو من خلال مبيعات الشرائط والأقراص الألكترونية. ومع أنه عاش 48 عاما فقط، الا أنه لم يلد من يملأ الفراغ الذي تركه، رغم كثرة الأصوات وازدحام المغنين في وسائل الاعلام، لكن أحدا لم يقترب الى منزلة عبد الحليم، وهذا هو سره الكبير.
في مطلع شبابنا ارتوينا من أغاني عبد الحليم حافظ مشاعر غرامية ووطنية في آن. عندما كان يبحث عن محبوبته السمراء بحثنا معه، وعندما تحدى الحبيب بأن حبيبته ليست له وحده تحدينا معه، وعندما قرأ في فنجانه أنه يستحيل عليه الوصول الى حبيبته السجينة تأثرنا معه، وعندما أقسم ألا تغيب الشمس العربية عن أوطاننا أقسمنا معه، وحينما عرض أمامنا صورة القائد عبد الناصر وكل فئات الشعب معه شاهدناها معه.
عبد الحليم تحول من فتى نحيف ضعيف يتيم مقهور الى أسطورة الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وتربع على عرش الغناء الى جانب عمالقة الفن آنذاك من عبد الوهاب الى أم كلثوم وفريد الأطرش وبالمقابل فيروز ووديع الصافي. جذب اليه الشباب من كل البلدان، تفتحت مشاعرهم، تبلورت أحلامهم وكبرت أمنياتهم مع أغانيه. عرف كيف يصل الى الجيل الشاب الذي كان تواقا للتجديد في الأغنية العربية كلمة ولحنا وأداء. وجاء عبد الحليم مع عصر الثورات العربية التحررية المنبثقة من رحم الارادة الشعبية بالتحرر من العبودية، فانطلق وتفاعل معها وتحول الى ناطق بلسانها بأغانيه الوطنية التي جسدت ونقلت للمواطن العادي، أفكار ومخططات وانجازات تلك الثورات وفي صلبها ثورة 23 يوليو المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، فكانت أغاني عبد الحليم الوطنية عبارة عن كتب كما وصفها أحمد سعيد، وساهمت بدور كبير في نشر رسالة الثورة.
وقع خبر وفاة عبد الحليم كالصاعقة، على رؤوس وفي أفئدة ملايين المعجبين الذين كانوا على موعد معه في حفل شم النسيم، ولم تحتمل بعض الصبايا ذلك الخبر بل تلك الوفاة، التي رأوا فيها انهيار حلم حياتهن، فأقدمن على الانتحار فور سماعهن الخبر، وأعلن جمهور الشباب الحداد غير الرسمي. كثيرون لم يستوعبوا الخبر وما صدقوا أن المطرب الرقيق الذي عرفوه بلقبه الشهير "العندليب الأسمر"، يرحل ويتركهم أيتاما على مأدبة الحب التي طالما زودهم من خلالها بوجبات من المشاعر والأحلام والخيال جعلتهم يهيمون بالحياة، لم يستوعبوا أن يتركهم فجأة بعدما قرأ لهم الفنجان وأرشدهم الى المكان الذي تنام فيه الحبيبة، ولم يترك له القدر الفرصة ليقنعهم أن الحب يأتي من غير ليه.. أربعون عاما مضت على رحيل عبد الحليم جسدا، لكن صوته وأغانيه وفنه ما تزال طاغية ومتربعة على عرش الفن وتملأ فضاءنا وقلوبنا عاطفة وأمنيات، تلامس شغاف قلوبنا وتحمل لنا الأماني وكأننا نسمعها من جديد بطعم حليمي مميز.
[email protected]