ما كان العدو الصهيوني يحلم يوماً بواقعٍ أفضل مما هو عليه الآن، فهو يحتل فلسطين رسمياً، ويهيمن عليها كلياً، ويتحكم في حدودها ومياهها الإقليمية والدولية، ويسيطر على سمائها وأجوائها، وله كامل السلطة على قراراتها وما يتعلق بها، ولا يسمح لغيره بالتدخل في شؤونها، أو الدخول إليها دون علمه وإذنه، وبعد التنسيق معه ونيل الموافقة منه، ولا يقبل في المناطق بغير سلطته، ولا يسمح للمجتمع الدولي ولا مؤسسته الأممية بالتدخل الحر في الشؤون الفلسطينية، ولو كانت مساعدة أو عوناً، أو تفتيشاً وتحقيقاً، أو مراقبة ومتابعة، إلا إذا وافقت هذه الإجراءات سياسته، ولم تتعارض مع أهدافه وغاياته، ولم تعطل مشاريعه ومخططاته.
وفي الوقت نفسه تمضي الحكومات الإسرائيلية في سياساتها اليومية، فتقوم بمصادرة الأراضي، وطرد السكان، وقتل واعتقال المواطنين، واقتحام المناطق المقدسة، والاعتداء على الحرمات الدينية، وتسرق المياه الجوفية، والخيرات الوطنية، وتفرض حصاراً على المناطق، وتقتحم المخيمات والبلدات والمدن، وتنصب الحواجز، وتداهم البيوت والمتاجر، والمؤسسات والبنوك والمكاتب، وتستولي على المعلومات الخاصة، وتنهب الأموال والممتلكات العامة، وتسمح لمستوطنيها بالعربدة، ولفرقها المستعربة بالانتهاك والفوضى، ولا ترى في أفعالها جرماً، ولا في ممارساتها مخالفة، بل تعاقب من يقاوم ويحاول أن أن يرد الظلم عن نفسه.
إنه احتلالٌ كاملٌ متكامل الأركان، واستعمارٌ شاملٌ مستوفي الشروط والمواصفات، ولعله يفوق الاحتلال القديم ويستعلي عليه، فهو أشد خطراً وأعمق جذراً، وأكثر طمعاً وأوسع نفوذاً، وأشمل علاقاتٍ وأسوأ مخططاتٍ، لكنه احتلالٌ بلا مسؤوليات، واستعمارٌ بلا ضريبةٍ ولا تبعات، إذ لم يعد يدفع كلفة احتلاله للأرض، ولا ضريبة حربه على السكان وقتله لهم، ولا يلتزم شيئاً تجاه المواطنين الخاضعين لسلطته، والمقيمين في المناطق التي احتلها وسيطر عليها بالقوة، فقد أكفته اتفاقيات أوسلو هذه المسؤولية، ورفعت عن كاهله هذا العبء القانوني والإنساني، وألقت بكامل المسؤولية على السلطة الفلسطينية، التي باتت ملزمة بالقيام بكل ما يحتاج إليه المواطن الفلسطيني، في الوقت الذي نزعت منها كل مقومات القوامة، وعوامل الاستقلال والاعتماد على الذات، وسرقت منها عوائد الشعب، ومداخيل الضرائب والجمارك.
الاحتلال تخلى كلياً عن مسؤولياته تجاه المواطنين، وهم المسؤولين منه بحكم القانون الدولي والإنساني، فلم يعد يعنى ويهتم بتوفير الكهرباء لهم، وضمان استمرار تزويدهم بها، ولا يهمه إن كانت مياه الشرب تصل إلى السكان أم لا، وما إذا كانت المياه نظيفة وصحية وتصلح للشرب أم لا، كما لا يجد نفسه مسؤولاً عن توفير ما يلزمهم من دواء وغذاء، وملابس للكساء وموادٍ للبناء، وضمان عدم تعرضهم للأوبئة والأمراض، والكوارث والمحن، وقد كان قديماً مكلفاً بهذا كله، ومسؤولاً عنه جميعه، بحكم القانون الدولي، الذي يفرض على سلطة الاحتلال أن تكون مسؤولة عن تأمين حاجات سكان المناطق المحتلة.
الاحتلال الإسرائيلي يعتقل آلاف الفلسطينيين، ويزج بهم في سجونه معتقلاته، ويجدد الاعتقال ويزيد في الأعداد، ويكدس الأسرى والمعتقلين في غرف ضيقة وزنازين منفردة، ولكنه لا ينفق عليهم شيئاً، ولا يتكلف تجاههم بطعامٍ أو شرابٍ أو كساء، ولا يغطي كلفة اتصالهم بأسرهم أو مراسلتهم لهم، بل يطالب المجتمع الدولي بأن يدفع عنه كلفة الاعتقالات، ونفقات المعتقلين، ويحمله المسؤولية إن قصر، في الوقت الذي يعتمد فيه كلياً على ما يصل إلى المعتقلين من ذويهم، ومن الجمعيات الإنسانية والهيئات المشرفة عليهم والمتابعة لشؤونهم، الذين يفرضون لهم رواتب أو يمنحونهم مساعداتٍ شهرية، في الوقت الذي يسرق فيه الاحتلال منهم بعض أموالهم، سواء من خلال رفع أسعار الكنتينة، أو فرض الغرامات المالية العالية عليهم عقاباً لهم.
كما لم يعد مسؤولاً عن توفير رواتب العاملين في قطاعات التعليم والصحة والبريد والمواصلات والخدمة المدينة والشرطية وغيرها، فلا مؤسسات يمولها، ولا مستشفياتٍ يشغلها، ولا مدارس يبنيها، ولا مرافق يعنى بها، فقد أحالها كلها إلى السلطة الفلسطينية العاجزة عن تسيير الحياة، وتوفير الرواتب أو النفقات العامة.
كما لم يعد مسؤولاً عن تعبيد الشوارع والطرق وصيانتها، وتغطية نفقات البلديات والمجالس المحلية، المعنية بنظافة مناطقها، وجمع قمامتها، وتوفير الأسباب الصحية فيها، ولا يعنى بمتابعة الأسواق ومراقبة الأسعار، والتفتيش على الشروط الصحية، وضوابط السلامة وأوليات الصحة والنظافة.
الاحتلال الإسرائيلي الذي ما زال يفرض الضرائب والمخالفات على السيارات الفلسطينية التي تعبر إلى الأراضي المحتلة عام 48، فيخالفها لأبسط الأسباب، وأحياناً يعاقبها دون مبررٍ إلا أنها من غزة أو الضفة الغربية، مما يزيد من قيمة المخالفة أو يضاعفها، قد بات خالياً من أي مسؤولية، ومرتاحاً من أي متابعة، في الوقت الذي يمارس فيه كل أشكال الاحتلال، قمعاً وقتلاً واعتقالاً ومصادرةً واعتداءً، بينما يقف المجتمع الدولي أمامه عاجزاً لا يقوى على فعل شئ، وهو الذي وصفه بأنه قوة احتلال، وأنه المسؤول عن توفير الخدمات لكل الخاضعين لحكمه، والمقيمين ضمن مناطق سيطرته.
ألا ترون أن العدو الصهيوني قد حقق أكثر مما كان يحلم به، وأنجز أكثر مما خطط له، فهو يحتل أرضاً دون كلفة، ويعاقب شعباً دون مسؤولية، ويعتقل أبناءهم دون أن يتكفل بهم، وكأن هذه الاتفاقيات قد صيغت له، وصنعت من أجله، ليكون هو السيد وغيره له عبدٌ، ينفذ له ما يريد، ويعمل له ما يشاء، سخرةً دون أجرة، والتزاماً دون معارضة، وطاعةً بلا ثورة، وتبعية بلا تمرد، وانقياداً بلا انقلابٍ أو تراجع.
[email protected]