يعتبر البعض أن قرار قضاة المحكمة العليا الاسرائلية في الالتماسات المقدمة أمامهم ضد قانون إلغاء "حجة المعقولية" سيحسم مصير نظام الحكم في دولة اسرائيل وشكله ؛ والقرار ، بهذا المعنى هو حدث تاريخي سيؤثر في حياة اليهود ومصيرهم. وقارن بعض المعقبين والمحللين بين الاحداث الجارية داخل المجتمعات اليهودية، في اسرائيل وفي العالم، وفترة الاعلان عن اقامة دولة اسرائيل في العام 1948.
لقد تم بث مجريات المحكمة مباشرة عبر الفضائيات والاذاعات الاسرائيلية في تعبير واضح من قبل قضاة المحكمة عن اهمية الموضوع وضرورة عرضه مباشرة امام الشعب على الملأ. من الصعب طبعا التكهن بالقرار الذي سيصدر قريبا، وعلى الأرجح فإن القضاة لن يجمعوا، بسبب اختلافات مفاهيمهم الاجتماعية وخلفياتهم السياسية ومرجعياتهم الروحية والثقافية، على نتيجة ومخرجات واحدة.
كُتب وسيُكتب الكثير في الاعلام العبري عن مجريات المحكمة كما شاهدها الجميع يوم الثلاثاء الفائت؛ وهي كما قلنا قد شكلت حدثًا لافتًا ومشهدا اسرائيليا مميزا، لكنه، رغم ذلك بقي مشهدًا "خاصا"، بمعنى انه يخصّ المجتمع اليهودي، ولا يعنينا، نحن الفلسطينيين المواطنين في اسرائيل. فعلى الرغم من وجود قاض عربي واحد داخل هيئة المحكمة،سعادة القاضي خالد كبوب، وعددها خمسة عشر قاضيا، الا ان روح التقاضي التي سادت في فضاء قاعة المحكمة وطبيعة هواجس الأطراف، كما عُبّر عنها، دارت كلها في فلك "الدولة اليهودية"؛ ودار الخلاف بين المعسكرين حول أية يهودية ستتحكم في الدولة، تلك التي يسعى اقطاب الحكومة الجديدة الى ترسيخها والعمل بهديها، أم تلك التقليدية التي صيغت هويتها في عروة الحكومات السابقة وفي دهاليز المحكمة العليا ذاتها. وأشار بعض النقاد والمحللين الى ان الصراع بين الرأيين يعكس في الواقع رغبة القوى اليمينية المتدينة الجديدة تغليب دور اليهودية مع التركيز على البعد الديني للدولة، على دور الصهيونية التقليدية، وبعدها القومي، وهذا ما لن تسمح به مجموعة من القضاة لكونه انقلابًا على المفاهيم المؤسسة للدولة.
لقد وصلت احوالنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، الى حالات عبثية مرهقة؛ وسنضيف اليها في هذه الايام وضعنا ازاء ما يجرى في هذه المحكمة، فبعضنا لا تهمّه المحكمة من أصلها، وبعضنا قد يعلق آمالا على قرار المحكمة المنتظر ويراهن أو يرغب، أن يزودنا القضاة بقارب نجاة وبدروع واقية كي تحمينا من مخططات هذه الحكومة أو غيرها من القادمات التي سينتخبها شعب، تؤمن أكثريته الساحقة اننا مواطنون غير مرغوب فينا داخل دولتهم اليهودية.
من العبث، برأيي، أن نعوّل على قرار هذه المحكمة، وأن ننسى أنها هي ذات المحكمة التي أصدرت قبل عامين فقط قرارها بخصوص "قانون القومية"، الذي كتبت متنه الأساسي رئيستها في حينه والحالية، القاضية استر حيوت. إنه القانون الذي توّج عملية جنوح المجتمع اليهودي نحو اليمينية المتعصبة والفاشية، وهي العملية التي ما كانت لتنجز لولا رعاية الجهاز القضائي الاسرائيلي لها وتسويغها من قبل محكمته العليا بمبررات عنصرية اسهمت في تطوير فكر "الفوقية اليهودية" وأفضت الى امكانية صرفها بأشكال عملية كما يطالب بها اليوم قادة الانقلاب على الجهاز القضائي وفي طليعتهم المحكمة العليا نفسها.
أنا شخصيًا أشعر بالغضب الشديد على قضاة هذه المحكمة، وعلى رأسهم الرئيسة حيوت وزميلها القاضي يتسحاك عميت، الذين رفضوا مرارا وتكرارا الاصغاء الى تحذيراتنا من أن حمايتهم المستمرة لسياسة الاضطهاد والقمع التي تمارسها حكومات اسرائيل في حق الفلسطينين داخل الاراضي المحتلة، وفي حقنا نحن المواطنين في اسرائيل. إن عدم اخضاعها لاحكام العدل ولحجة المعقولية وقيمة المساواة العرقية، ستفضي حتما الى ممارسة نفس السياسة داخل اسرائيل، اذ لا يمكن لأحد أن يوقف نيران العنصرية والقمع على عتبات بيوت العرب، فالنار ستصل حتى عتبات محكمتهم، كما يحصل في هذه الايام. من المؤسف انهم لم يسمعونا، ومن المحزن أنهم لم يسمعوا زميلهم القاضي جورج قرّا الذي كان قراره في مسألة قانون القومية عبارة عن صوت واحد يصرخ في برية عشرة قضاة تصرفوا كحماة لمبدأ الفوقية اليهودية التي كانت أمّ كل الموبقات التي مارستها حكومات اسرائيل المتعاقبة داخل الاراضي المحتلة وبحقنا داخل اسرائيل؛ واليوم تريد هذه الحكومة احتكارها وتطوير انتاجها ومفعولها. لو كنت استطيع لنصحت القضاة أن يعودوا الى مراجعة ما كتبوا قبل عامين حين اجازوا بقرارهم "قانون القومية"، ويقرأوا ما كتبوا وما كتب زميلهم القاضي جورج قرّا حين استقرأ النتيجة الحتمية التي سيوصل اليها قانون القومية، وهي القضاء على القيم الديمقراطية الاسرائيلية وتثبيت "الفوقية اليهودية" على ما سيعنيه ذلك حيال وجود المواطنين العرب في الدولة وحقوقهم. في حينه رفض القاضي جورج قرّا تبريرات زملائه العشرة وأكد محذرًا أن القانون سيؤدي عمليًا الى "اخضاع هوية الدولة الديمقراطية، التي في اساسها حقوق الانسان وحقوق الاقليات، الى هويتها اليهودية ؛ اي خلق حالة من تفضيل القومية اليهودية واكساب الهوية اليهودية للدولة صفة الفوقية على هويتها الديمقراطية، وهذا من خلال التغيير القانوني"؛ وأضاف قائلا أن "المضمون الحقيقي لقانون القومية هو مضمون تمييزي واقصائي ضد المواطنين غير اليهود، وجلّهم من المواطنين العرب. يخلق قانون القومية حالة تفضيل لقيم الدولة كدولة يهودية على قيمها كدولة ديمقراطية ". قال جورج وصدق. لقد مضى عامان على ما كتبه القاضي ابن مدينة يافا، وما توقعه هو وجميع من عارضوا القانون، تحقق ببركة السيدة حيوت وزملائها الذين يحاولون اليوم انقاذ مؤسستهم "وكرامة المواطن" على حد تعبيرها.
نحن في مأزق كبير ولا نعرف ماذا نعمل وكيف يجب ان نتصرف؛ فوضعنا القانوني داخل اسرائيل يزداد تعقيدا، ومكانتنا كمواطنين محميين جزئيا بمظلة مواطنية، تتراجع وتفقد معظم دروعها وكوابحها الحامية. تتصرف الاغلبية بيننا وفق حكمة اجدادنا الذين روضتهم، عبر مئات السنين، سياط الحكام الاجانب وقصص "ايام السفربلك" و اهازيج "حيّد عن الجيشي يا غبيشي" وصاروا يكتفون بالعيش بعقيدة "امشي الحيط الحيط وقول يا ربي السترة" او "نفسي وبعدها الطوفان". أما الآخرون فقد فقدوا الثقة بمؤسسات الدولة ويتهمون اسرائيل كمسؤولة عن جميع مصائبنا ولا يهتدون ولا يهدون شعبهم الى البدائل الكفيلة لحماية مجتمعاتنا من سطوة الحكومة واذرعها، أو من تفشي الجريمة والرذيلة في مواقعنا، أو من سقوط حامياتنا الاخلاقية وحواضنها الاجتماعية والسياسية وغيرها.
لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا الاسرائيلية؛ لكنني اتمنى ألا تسحقها القوى الظلامية والميليشيات العنصرية والكتائب الفاشية. فنحن على اعتاب حقبة خطيرة للغاية اتوقع أن نشهد فيها جملة تصعيدات على عدة جبهات؛ فالاوضاع في الاراضي المحتلة على حافة الانفجار والايام القادمة حبلى باليأس وبالديناميت .
إن ازدياد منسوب الجريمة والعنف بيننا في تصاعد حتى بتنا نواجه حالة من "حلة الحكم" والعيش بحالة من الخوف وفقدان مشاعر الامن الشخصي والمجتمعي. وتتراجع اوضاع المجالس البلدية والمحلية بوتيرة متسارعة حتى باتت مؤسسة الحكم المحلي كلها تواجه خطرا على وجودها وخللا جوهريا في امكانيات تأدية مهامها وواجباتها في حماية وخدمة مواطنيها. أما الاحزاب السياسية التقليدية فدخلت الى غرف الانعاش ولا أمل في أن تخرج منها سالمة، ومثلها تعاني معظم مؤسساتنا السياسية والمدنية القيادية؛ واخيرًا اتوقع اننا سنشهد حملة من ملاحقة القطاعات المنتجة للفكر وللتعليم والاقتصاد داخل مجتمعاتنا، فلن يكون المعلم او الموظف محصنًا من ملاحقة "الاخ الاكبر" او عيون السلطان، واما الشركات العربية الكبيرة فلن تُترك لتعمل كمملكات عربية مستقلة، اذ يجب اخضاعها للسيد اليهودي. باختصار سوف نواجه حالة سنطالب فيها ان نقبل العيش تحت مظلة وعصا يهوديتين ترفعهما حكومة تؤمن بفوقية يهودية ربانية، او اذا رفضنا فإننا سنعاقب. فهل في هذه الحالة سيكفي ان نقول ونردد في كل مناسبة وبعد كل مصيبة "نحمل اسرائيل المسؤولية" ؟ هل هذا كاف ؟ وهل هذا الشعار لوحده في المشهد الاسرائيلي الحالي صحيح ؟ هل اسرائيل اليوم هي فعلا واحدة ؟ الا يتوجب علينا ان نفتش عن اسرائيل الاخرى ؟ أو ربما علينا ان نوجدها مهما كانت المهمة صعبة او حتى قريبة من المستحيلة.
لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا؛ ولا يبدو أن مصيرنا، كمواطنين واصحاب أرض يشغل، لغاية الآن، بال معظم المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو وحلفائه، وعلى الرغم من ذلك لا يجوز لنا ألا نفرق بين المعسكرات الاسرائيلية وأطيافها الواضحة؛ فاسرائيل، التي نعتبرها وحدة عدائية واحدة، تعيش أزمة حقيقية متعددة الأوجه، أحداها هي الازمة الدستورية، وأهمها حالة الصراع على طبيعة نظام الحكم وعلى مرجعياته ، فهل هي التوراة ام وثيقة الاستقلال مثلًا؟ والصراع على قيم الدولة الاجتماعية والاخلاقية الاساسية، هل هي الفوقية اليهودية ام ضرورة تحقيق مساواة المواطنين العرب؟ والصراع على قدسية الخدمة العسكرية في ظل استمرار الاحتلال واضطهاد شعب آخر ، هل ستواصل قطاعات يهودية متدينة واسعة، الامتناع عن تأدية تلك الخدمة، او هل ستستمر الشرائح التي تخدم في جيش الاحتلال تأدية خدمتها؟
انها في الواقع أكثر من اسرائيل حتى لو ظهرت ضدنا كأنها اسرائيل واحدة ..
[email protected]