فاجأ اعلان رئيس قائمة الجبهة/العربية للتغير ، النائب أيمن عودة ، قراره بعدم الترشح للدورة المقبلة للكنيست، معظم الأوساط الاعلامية والكثيرين من متابعي شؤون السياسة على الساحة الاسرائيلية. في بث مصوّر، بادر أيمن عوده الى نشره مساء الثلاثاء الفائت، قال انه قرر أن يتخذ "موقفًا مسؤولا تجاه شعبنا، تجاه وحدتنا الوطنية، بألّا أترشح للمرة القادمة. وأن أسعى بمنهجية معكم جميعًا من أجل العمل على بناء أوسع وحدة مبنية على خط وطني كريم"، وأضاف في كلمته بأنه سيبقى "نشيطًا في هيئات الجبهة" واصفًا ذلك بالأمر البديهي.
تناولَت وسائل الاعلام العربية والعبرية، بطبيعة الحال، اعلان النائب أيمن عودة باهتمام بالغ؛ وكذلك فعل المعقبون على منصات التواصل؛ فتراوحت ردودهم بين من أشادوا بالقرار مؤكدين على كونه مخالفًا "لعرف" القيادات العربية، على طول وعرض الوطن العربي ، والتصاقهم بالكراسي وعشقهم للمناصب، وبين من تناولوه بدوافع شخصية سطحية أو حزبية عصبية وكأنهم وجدوها فرصةً للمناكفة وللشماتة.
قد يكون التوقيت الذي اختاره النائب ايمن عودة مفاجئًا للكثيرين، خاصة أنه جاء في خضمّ أوضاع سياسية استثنائية، سواء على ساحة الكنيست نفسها، أو خارجها؛ في الدولة عمومًا وداخل مجتماعتنا العربية على وجه الخصوص؛ لكنني أعتقد أن قراره كان متوقعًا ومحتومًا لسببين أساسيين، كان من المفروض أن يعرفهما المقربون من أيمن وكذلك مَن تابعوا مسيرته، في السنوات الأخيرة، نحو مواقع القيادة داخل مؤسسات الجبهة الديمقراطية. السبب الأول هو العلاقة المتوترة التي سادت بين المؤسسات القيادية في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، خاصة مع بعض أعضاء المكتب السياسي والى جانبهم بعض قيادات الجبهة الديمقراطية وبين ايمن عودة ؛ علاقة أنتجت حالات من التشويش المستمر، وخلق مشاهد ملتبسة وتهجمات مهينة بحقه، رافقتها احيانًا قرارات حزبية قيّدته بضوابط ثقيلة وألزمته بموانع حدّت من حريته في التحرك في مسائل سياسية مفصلية ومن تنفيذ برامجه ورؤاه السياسية، على الرغم من التزامه بمباديء الحزب والجبهة التاريخية والمعلنة. والثاني، عملية التقهقر التي تشهدها الحالة الحزبية داخل مجتماعتنا وعزوف الناس عن العمل السياسي ورفضهم الانخراط والتعاون مع نداءات الأحزاب والمؤسسات القيادية وخلق حالة شعبية جدية تأخذ على عاتقها مواجهة الفاشية، من جهة، ومواجهة آفة العنف المستشري في مجتمعاتنا المحلية، من الجهة الأخرى.
لسنوات طوال تبوّأت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وعمادها المركزي كان الحزب الشيوعي الاسرائيلي، مكانة التنظيم الرائد في قيادة نضال الجماهير العربية ضد سياسات الاضطهاد العنصري والقمع التي مارستها حكومات إسرئيل ضد مواطنيها الفلسطينيين؛ ومنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي برز قادة الجبهة الديمقراطية، الشيوعيون وغير الشيوعيين، والى جانبهم قيادات من تنظيمات أخرى، في اجتراح وسائل تنظيم الناس وهندسة خوارط طرقهم في النضال على الجبهتين، الهوياتية القومية، والحقوق المدنية. وكي لا ننسى تلك المناخات عسانا نتذكر بعض الاطر الوحدوية التي بادر اليها بالاساس الحزب الشيوعي الاسرائيلي ومن بينها لجنة المبادرة الدرزية (1972) واللجنة القطرية للطلاب الثانويين (1974) لجنة الدفاع عن الأراضي(1975) الاتحاد القطري للطلاب الجامعين (1975) لجنة المبادرة الاسلامية (1976) الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (1977) وغيرها من الاطر، القطرية والبلدية، التي لعبت دورا هاما في تحصين المجتمع والدفاع عن مختلف شرائحه، مثل اللجنة القطرية للرؤساء ، لجنة المتابعة العليا، حركة النساء الديمقراطيات، ولجان التجار والاكاديميين وغيرها.
لست في معرض تحليل الاسباب التي أدت الى اختفاء معظم هذه الأطر أو بقائها مجرد هياكل ضعيفة، ولا أن أستعرض الأسباب التي جعلت مجتمعاتنا المحلية تنأى عن الانخراط في النشاطات السياسية وعن التفاعل مع الأحزاب السياسية الناشطة بيننا؛ لكننا نأسف على أنه بالرغم من تبخر قوة بعض تلك المؤسسات والاحزاب، واقتراب الاخرى من الاندثار لم تبادر قياداتها الى اعادة النظر في أوضاعها التنظيمية المتكلّسة، ولا في برامجها الاجتماعية والسياسية التي لم تعد صالحة لمواجهة واقع الدولة وحالة الناس ومشاكلهم. وقد يكون هذا ما دفع في النهاية بأيمن عوده لاتخاذ قراره المذكور.
من الضروري أن نسمع البيان بانتباه، فما قاله أيمن مهمّ وما لم يقله مهمّ أيضًا، وذلك لأن موقفه يعكس حالة شائعة يتعاطف معها الكثيرون من أبناء مجتمعنا ومن بينهم أعضاء كثر في الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية؛ فهو لن يترشح للكنيست في الدورة القادمة ويؤكد في نفس الوقت على أن القضية المركزية "التي سأعمل كل جهدي من أجلها هي المساهمة الجدية والمنهجية من أجل القضية الأكبر ، القضية الأم، وهي إنهاء الاحتلال. حيث لا سلام ولا أمن ولا مساواة ولا ديمقراطية ولا علاقة طبيعية بين الشعبين إلّا بانهائه. هنا ستتركز كل جهودي بالسنوات القادمة". هكذا قال وكأني به ينتقد نفسه أولا ومعه ينتقد معظم اللاعبين السياسيين في ساحاتنا بالقصور، وفي طليعتهم ينتقد جبهته التي ، هكذا يجب أن نفهم أقواله، لم تعمل بشكل جدي ومنهجي ضد الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي لم تعمل على سائر الجبهات الهامة. لقد تخلّت عمليًا قيادات الجبهة عبر السنين عن العمل بهدي المباديء المؤسسة الراسخة والمعروفة التي جعلت حتى بداية القرن الثالث، من الجبهة القطرية والجبهات البلدية المحلية، وقياديّيها ومعهم سائر العناوين الوطنية، مقالع لتنظيم الناس سياسيًا، ودفيئات لتربية الهوية الجامعة، ومظلات اجتماعية منيعة حمت المجتمعات وأمّنت للمواطنين حالة من السلم الأهلي وفضاءات من الأمن المجتمعي. هكذا يشعر الكثيرون من مؤيدي الجبهة الديمقراطية وأنصارها التقليديين.
ألمح البعض على أن بيان أيمن عودة يتضمن اقراره بعدم نجاعة النضال من داخل الكنيست وضرورة مقاطعة الانتخابات العامة الاسرائيلية؛ وهذه في رأيي قراءة مخطوءة لكلامه، فعلاوة على تأكيده، في معرض البيان، على تمسكه بضرورة المشاركة في الانتخابات والعمل على ادخال أكبر عدد من النواب للكنيست، كما حصل مع القائمة المشتركة، علاوة على ذلك، يحتسب هو هذا الانجاز "كلحظة الزهو، المتمثلة بحصولنا على 15 مقعدًا والشعور الجماعي بالقوة"، كما ويضيف على أن "هذه اللحظة يجب أن تعود وتؤسس للمراحل القادمة". فهو ، لمن يمعن في هذه الأمنية والوعد، يتنازل عن مقاعد جبهته الديمقراطية، ليباشر، مع آخرين، عربًا ويهودًا، ببناء جبهة شعبية أعرض تؤمن وتناضل بخط وطني كريم من أجل انهاء الاحتلال؛ لأن الاحتلال كان وبقي هو المواجهة الأكبر، المواجهة الأم، اذ لا ديمقراطية ولا مساواة في الحقوق ولا أمن ولا أمان مع الاحتلال.
لا يجوز ولا يمكن اعفاء النائب ايمن عودة من المسؤولية عن الوضع الذي وصلت اليه الجبهة الديمقراطية في السنوات الأخيرة، فقد كان يُعدّ في هذه السنوات قائدًا واعدًا ويحظى بدعم كبير بين صفوفها وداخل قواعدها العريضة. لقد شعر، كما كان يعبّر مرارًا، بقصور مؤسساتها في العمل النضالي الصحيح. لقد تطرق لتصوراته السياسية ورؤاه الاجتماعية، ليس في مسألة مواجهة الفاشية والاحتلال وحسب، بل في مجمل القضايا الاخرى، مثل ضرورة النضال المشترك مع القوى اليهودية، وبناء جبهة عريضة ضد الفاشية، وقضية الدفاع عن الحيّزات العامة، ومواجهة ظواهر القتل والعنف، باسبابه المختلفة، وتراجع مكانة الحريات الفردية مثل حرية الابداع وممارسته في الاماكن العامة، وازدياد مظاهر الاكراه الديني والتراجع في مكانة المرأة وحقها في ممارسة حياتها بحرية، وغيرها من المواضيع التي كانت الجبهة الديمقراطية أول من صاغها وتبناها ودافع عنها بعناد ما زلنا نذكره. لا أعرف لماذا لم يحسم أيمن عوده مواقفه في معظم تلك العناوين عندما كان يستطيع حسمها من داخل الجبهة. ربما خاف من شق صفوفها فتردد، أو ربما، كان مرد ذلك وفاؤه لمن سبقوه في رسم معالم الطريق ، وربما كان يؤمن بأنه قادر على استرضاء "الحرس القديم" واقناعهم بضرورة العمل موحدين من داخل جبهة جديدة ومتجددة وقادرة على استراجع المقاود الآمنة؛ لكنه لم ينجح.
لم أكتب المقال دفاعًا عن ايمن عودة ولا عن خطوته المعلنة، فمآلاتها المستقبلية ما زالت قيد التخمين والترقب؛ بل أكتب كي أؤكد مرة أخرى على أننا نشهد أفول أدوار الاحزاب السياسية التقليدية ونفاد صلاحيتها، وبضمنها طبعا الجبهة الديمقراطية التي تربيت في حضنها، فاذا لن ينجح مجتمعنا بتخطي هذه المحنة السياسية الكبيرة، سنغرق أكثر في وحول الفاشية وفي دماء عجزنا المتفاقم. لقد وصلنا اليوم الى ما وصلنا اليه فصارت حظوظ بناء الجبهة العريضة ضد الاحتلال وضد الفاشية، التي يحلم فيها كل مناضل وحر وسياسي يؤمن بالواقعية الكفاحية، تتقلص بشكل مقلق، لكننا لن نفقد الأمل.
لقد اصدرت الجبهة الديمقراطية بيانا عقبت فيه على اعلان النائب ايمن عودة، جاء فيه أن " النائب ايمن عودة كان قد أشرك الجهات المخولة بقراره وعدم ترشحه لدورة اضافية، وهو قرار نقدره ونحترمه ، كما نحترم الدور الكبير للنائب عودة على مدار عقدين من الزمن في قيادة الجبهة". قرأت البيان ولم أعرف أأبكي أم أضحك؟ لقد تناسوا كيف جلده بعضهم وصلبوه واتهموه بالكبائر وحوّلوا حياته داخل الجبهة الى جحيم لا يهادن. أأبكي أم أضحك؟ فهكذا يولد الرياء في مطارحنا، وهكذا تهدم صروح آبائنا وهكذا "نجوع ونعرى وقطعًا نتقطع.. فلتسمع كل الدنيا فلتسمع".
[email protected]