بقلم : لمى منصور
مقدمة
تستمر الممارسات الإسرائيلية بحق فلسطينيّي الأرض المحتلة العام 1948 والقدس، بعد ما شهدته القدس وأحياؤها من أحداث عنيفة بعد محاولات تهجير السكّان الفلسطينيين من حي الشّيخ جرّاح، وإغلاق باب العامود، والسماح للجماعات اليهوديّة تنظيم مسيرات في الأحياء الفلسطينيّة، خلال شهر أيار/مايو 2021.[1]
شارك فلسطينيو 48 دعمًا لهبّة القدس، فنظموا مسيرات شعبية في مختلف البلدات الفلسطينيّة، وأعلنوا الإضراب الشامل، ودعوا إلى حملة الاقتصاد الوطني "اشتر من بلدك"، التي امتدت من الداخل المحتل إلى الكلّ الفلسطيني.
لا تعد هذه المشاركة وليدة اللحظة، إلا أنّ حجمها واتساعها وتوزيعها الجغرافي يطرح تساؤلًا حول دلالات تطور نوعية وخريطة مشاركة فلسطينيي 48 في هبّة القدس، إذ جاءت مشاركتهم واسعة وممتدّة على الرغم من محاولات دمجهم وسلخهم عن هويتهم الوطنيّة. وقابلت إسرائيل مشاركتهم بالقمع والاعتقال.
شموليّة الإضراب
شكّلت فكرة الإضراب العام جزءًا من صورة النضال داخل أراضي 48، أهمها إضراب ثورة 1936، والنكبة، وما شهده إضراب يوم الأرض، وإضراب 1982 في الجولان السوريّ رفضًا لمحاولة فرض الجنسيّة الإسرائيليّة على الأهالي، وتوالت الإضرابات في الانتفاضتين الأولى والثانية.
شهدت فترة التسعينيات شكلًا آخر من الإضراب، أخذت فيه الطبقة الوسطى الناشئة أدوارًا أوسع في الأحزاب القائمة، وصعود الحركة الإسلاميّة التي لم تكن لها صلة وثيقة بالإضرابات، وبدأ شكل الإضراب يأخذ طابع التضامن والحداد، ولم يعد يشكّل ورقة ضغط، وانحصر في المناطق الفلسطينيّة.[2]
شارك فلسطينيو 48 في إضرابٍ شامل، في 18 أيار/مايو 2021، تبنّته الأحزاب والاتحادات والنقابات، ليشمل الكلّ الفلسطينيّ، ويعدّ الأوّل من نوعه الذي ينفذ في كل فلسطين بعد الإضراب الكبير الذي عمّ فلسطين العام 1936، إذ دعت لجنة المتابعة العربية العليا إلى إضراب شامل في التجمعات الفلسطينية، ردًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والقدس.[3]
أعاد الإضراب الشامل المعنى الحقيقيّ للإضراب ودوره في التأثير على الاقتصاد الإسرائيليّ، حيث شلّ مناحي الحياة التجاريّة، وأغلقت المؤسسات التعليميّة، والمصارف، ووسائل النقل والمواصلات.
وجاء الإضراب مؤثرًا لأهمية فلسطييني 48 كعمال ومستهلكين في الاقتصاد الإسرائيلي، إذ تصل نسبة العاملين في المستشفيات الإسرائيليّة إلى 20%، أي ما يقارب 40 ألألف عامل، إضافة إلى 130 ألف عامل من الضفة الغربية، يعملون في البناء وقطاعات أخرى، فضلًا عن 30 ألف عامل آخر يعملون بالمستوطنات.[4]
شمل الإضراب إغلاق المحال التجارية والقطاعات الخاصة، باستثناء المراكز الطبية، وتعطيل القطاع التعليمي بمختلف مستوياته. وبحسب إحصائية نشرتها صحيفة "هآرتس" العبرية، فإن ما يقارب 150 عاملًا التزموا بالعمل من أصل 65 ألفًا، وإن 6.5% من عمال النظافة التزموا بالإضراب، فيما أشارت وزارة النقل الإسرائيليّة إلى أنّ 10% من سائقي الحافلات لم يحضروا إلى العمل، وألغي ما يقارب 300 رحلة.[5] كما شارك عدد من الأطباء والممرضين الفلسطينيين في الإضراب، وتعرّض عدد منهم للمساءلة والمحاسبة وفق ملتقى الممرضين العرب.[6]
الاقتصاد المقاوم
دعت مجموعات شبابيّة لأسبوع الاقتصاد الوطنيّ بعنوان "اشتر من بلدك"، وامتد من 6-12 حزيران/يونيو 2021 في جميع أماكن التواجد الفلسطيني، وجاءت منشورات الحملة مشجعة على شراء المنتجات الفلسطينيّة.
وطالبت الحملة الحركات الشبابيّة واللجان الشعبيّة في بيانها الرسميّ إلى تنظيم مبادرات محليّة لتعزيز اقتصاد البلدات، وتوطيد التكافل الاجتماعيّ[7]، إضافة إلى الاعتماد على المنتجات الفلسطينيّة، ومقاطعة البضائع الإسرائيليّة والاستيطانيّة؛ لتشجيع الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، ومقاومة إسرائيل اقتصاديًا.[8]
أبرتهايد غير مُعلن
وثّق مركز عدالة، ضمن قاعدة بيانات التشريعات التمييزيّة، 50 قانونًا إسرائيليًّا ضدّ فلسطينيي 48 لترسيخ فكرة يهودية الدولة[9]، بالاعتماد على دعم الغالبيّة اليهوديّة، مثل قانون الجنسيّة اليهوديّة الذي ينص على سحب المواطنة ممن يمس أمن إسرائيل، وأداء القسم لمن يحمل الهوية الإسرائيلية بيهوديّة الدولة، ومن يرفض تسحب منه المواطنة.[10]
تسعى إسرائيل إلى استبعاد فلسطينيي 48 من السلطة، وحصرهم في مناطق فقيرة، وتعاملهم كأقليّة وطنيّة ودينيّة، لتحقيق التجزئة الجغرافيّة والاحتواء الديموغرافي، والهيمنة السياسيّة والتبعيّة، لنزع الصبغة الفلسطينيّة عنهم[11]، ويعطي قانون القوميّة اليهوديّة الذي أقرّه الكينيست عام 2018 الإسرائيليّ اليهوديّ الحق في تقرير المصير، وينفي وجود شعب آخر[12].
الأسرلة
تطرح إسرائيل شعارات لـ"كيّ الوعي"، وتبث أفكارًا حول قيم المساواة، ومفهوم الحقوق المدنيّة، وأنّها دولة للجميع، في المقابل راهنت على تحركات فلسطينيّة فرديّة بعيدًا عن وجود مشروع سياسيّ وطنيّ جامع.[13] واستُخدم مفهوم "كي الوعي" بشكل مبالغ به في العام 2000، على لسان أيهود باراك، وزير الحرب الإسرائيلي حينذاك، حين قال: "إنّ إسرائيل بصدد كيّ الوعي الفلسطيني بالنّار، وتكريس الشعور بالعجز، ثمّ الاستسلام".[14]
انعكست طبيعة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي بشكل فردي، إضافة إلى تأييد نسبة من الفلسطينيين مشاركة الأحزاب العربيّة في الحكومات الإسرائيليّة دون الأخذ بعين الاعتبار تركيبتها السياسيّة[15]، وتعد مشاركة "القائمة العربية الموحدة" في حكومة "التغيير" في 2021، سابقة لأوّل مرّة منذ تأسيس إسرائيل مقابل وعود بتحسين ظروف فلسطينيي 48، ووجود القائمة في الائتلاف الحاكم قد يعزز دمجهم مما ينعكس إيجابيّا على شرعية إسرائيل.[16]
يعاني المجتمع الفلسطينيّ في الداخل من انتشار العنف، ففي العام 2020، تجاوزت جرائم القتل 100 جريمة، وترفض إسرائيل مكافحة المافيات، بل تشجعها، وبلغت عمليّات القتل في المجتمعات الفلسطينيّة نسبة 70% بسلاح غير مرخص، ووصلت نسبة حيازته إلى 80%، وتشكل نسبة القتل فيها 7.4 أضعاف القتل في المجتمعات اليهوديّة[17]، ويضاف إلى ذلك أن أكثر من 53% من العائلات الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر، مقابل 35% للعلائلات اليهودية.[18]
التكامل الجغرافي
جاءت هبّة القدس امتدادًا للصراع الوجوديّ، وبدأت الاحتجاجات الشعبيّة بالداخل الفلسطينيّ، وشهدت صدامات مباشرة مع قوات الشرطة، وتجاوزت الشرطة لتصل إلى مجموعات المستوطنين وعصابات تدفيع الثّمن التي اعتدت بشكل منظم على الفلسطينيين.[19] وشكّلت الاحتجاجات دعامة أساسيّة لأهالي الشيخ جراح والقدس، وللحفاظ على حرمة المسجد الأقصى.
وفي هذا السياق، بيّن توفيق محمد، صحفي فلسطيني من النقب، أن دوافع احتجاج فلسطينيي 48 متفاوتة، وتتمثل في: رفض المحاولات الإسرائيلية لطمس الهوية عبر رفض قانون القومية، وهذا الاتجاه من الاحتجاجات تركز في أم الفحم والناصرة؛ الانتقام من عمليات إطلاق النار والقتل بحقهم، وتركز في منطقة المركز كيافا واللد؛ أما الثالث فجاء منسجمًا مع الأحداث الأخيرة في القدس.[20]
أسست الدوافع مجتمعة لصورة جغرافية متكاملة في طبيعة المشاركة ونوعيتها، وأظهرت الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة للوحدة بين الفلسطينيّين، وجسّدت مشاركة فلسطينيي 48 تكامل مشهد المقاومة التي جمعت الفعل الانتفاضي الشعبيّ، مع المواجهات في الضفّة، والمواجهة العسكريّة في غزّة.
تنوعت طبيعة مشاركة فلسطينيي 48 في الاحتجاجات بين سلمية ومسلحة، وهذا يشير إلى الانتقال من رد الفعل إلى الفعل، إذ شهدت الأحداث إطلاق نار على مقرات الحكومة والشرطة ورؤساء البلديات، وحرق سيارات المسؤولين[21]، وشهدت الساحات تظاهر مئات المحتجين في العديد من القرى والمدن العربية و"المختلطة"، في كفر كنا، وكابول، وطمرة، والناصرة، ومجد الكروم، ويافا، وأم الفحم، ونحف، وشفا عمرو، وعبلين، ورهط، وكفر قاسم، والطيبة، واللد، وجديدة المكر، وكفر ياسيف، وباقة الغربية، والبعينة نجيدات، وذلك بدعوة من اللجان الشعبية وبعض المجالس المحلية.[22]
قمعٌ متعدّد
لم يواجه الفلسطينيون قمع من الشرطة الإسرائيلية فحسب، بل كان قمعًا متعددًا من فئات المجتمع الإسرائيلي، وأجهزته العسكريّة، إذ رفعت الشرطة الإسرائيليّة حالة التأهب، وفرقّت المظاهرات بوسائل عدة، وشنّت اعتقالات واسعة ضد الفلسطينيين، متجاوزة القانون الإسرائيلي الذي يعتبر التظاهر السياسيّ حقًا مشروعًا، ودخلت معركتها ضد فلسطينيي 48 بأقوى أدواتها، واستعانت بوحدة "اليسام"، التي تستخدم العنف، والمختصة في مكافحة الجريمة.
وارتكبت الشرطة الإسرائيلية بحسب منظمة العفو الدولية انتهاكات عدة بحق الفلسطينيين، ومارست حملات اعتقال واسعة وقمعيّة تقوم على الأساس العنصري، واستخدمت العنف بشكل غير قانوني، إضافة إلى إخضاع المعتقلين للتعذيب.[23]
فقدت إسرائيل السيطرة على الوضع الأمني في عدد من المدن العربية، وقرر بيني غانتس، وزير الحرب، سحب ثلاث كتائب من قوات حرس الحدود بالضفة، لنقلها إلى المدن العربية بالداخل، وأُعلِنت حالة الطوارئ في اللد التي شهدت أعنف المواجهات مع قوات الشرطة.[24]
كما شهدت الأحداث وجود تنظيمات مسلحة يهودية من المستوطنات، وبعض طلبة المدارس الدينية اليهودية في المدن الساحلية واللد، واستخدمت السلاح بحرية دون الالتزام بالقوانين التي تنص على حصرية الدولة في استعماله، وهذا الأمر لاقى مديحًا من أييليت شاكيد، وزيرة الداخلية لاحقًا، وإيلي أوحانا، وزير الأمن الداخلي حينها.[25]
واعتقلت الشرطة الإسرائيليّة خلال الاحتجاجات أكثر من 2250 فلسطينيًّا، ووجهت 184 لائحة اتهام بحق 285 متهمًا[26]، فيما استشهد شابان من اللدّ وأم الفحم، إضافة إلى إغلاق الشرطة لمداخل عدد من المدن والبلدات العربية بالكتل الإسمنتيّة كبلدة عرعرة، وفرضت حظر التجوال على السكّان كما في اللّد.[27]
تأتي ردود الفعل العنيفة للشرطة، ومجموعات المستوطنين منسجمة مع سياسات الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين على الرغم من كل محاولات الأسرلة والدمج.
وفي هذا السياق، أشار تقرير لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، التابعة لـهآرتس، إلى ازدياد طلبات الحصول على تراخيص حمل السلاح منذ هبّة القدس، خاصة في المدن المختلطة، ووفقًا لمعطيات وزارة الأمن الإسرائيلية منذ بدء الحرب على غزة، بلغ عدد الطلبات من جانب السكان اليهود 10850 طلبًا، وورد في التقرير أن أمير أوحانا أعلن إقامة لوبي في الكنيست للدفع قدمًا نحو قوننة حق الدفاع عن النفس في إسرائيل، يضم 20 عضوًا، فيما أطلقت جهات استيطانية في الصهيونية الدينية التي ينتمي إليها رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي نفتالي بينيت حملة للاستيطان في أحد أحياء مدينة اللد؛ لتعزيز الوجود اليهودي فيه، ومواجهة ازدياد أعداد الفلسطينيين.[28]
نتيجة لتلك المعطيات، فإن فلسطينيي 48 يواجهون خطرًا حقيقيًا نتيجة للتوجه العام الإسرائيلي إلى ممارسة العنف والتمييز بحقهم، سواء من قبل الجيش والشرطة، أو المستوطنين الذين اتجهوا بشكل متزايد إلى امتلاك الأسلحة بحجة الدفاع عن النفس، وهذا بدوره يوسع دائرة الخطر التي يعيشها فلسطينيو 48، وينذر بحالة تصعيد جديدة للقتل والاضطهاد بالداخل.
خاتمة
تعبّر مشاركة فلسطيني 48 في هبة القدس عن فشل سياسة الأسرلة ومحاولات الدمج الفردي، وعن وجود حالة تمايز في الانتماء والهويّة بين فلسطينيي 48 والإسرائيلييّن، التي تفاقمت بسبب عوامل عدة، خاصّة في ظل تنامي دور اليمين الصهيوني المتطرف وسيطرته على الدولة، وتكريس مظاهر وقوانين التميز العنصري بحقهم، والصراع الوجودي الممتد منذ بدايات السيطرة على فلسطين، فيما تعد محاولات الدمج سياسيات هزيلة لا يعول عليها أمام طبيعة الصراع الحقيقي على الأرض، وطبيعة الاحتجاجات التي قام بها الفلسطينيون واتساعها، والتي جاءت نتيجة تراكمات وضغوطات تعرضوا إليها على مرّ السنوات، رغم حالة الهدوء خلال السنوات الماضية.
[email protected]