تفكّكت القائمة المُشتركة، عمليًا، منذ ما يزيد على عام، ولكن ما حصل أخيرًا لم يكُن إلّا الإعلان النهائيّ والرسميّ عن تفكّكها إعلاميًا وسياسيًا وانتخابيًا. فالقائمة التي تأسست، في العام 2015، في أعقاب رفع نسبة الحسم لانتخابات الكنيست، لم تتعد في الحقيقة كونها قائمة نجاة للأحزاب العربيّة الأربعة المشاركة في انتخابات الكنيست، تضمن عبورهم نسبة الحسم، ووجودهم وتمثيلهم في الكنيست. فمنذ تأسيس القائمة، لم يتم بحث إطارها السياسيّ بشكل جدّي، كما لم يتم وضع آليّة تضمن استمرارها، فباتت كُل انتخابات جديدة تمر في ذات الأزمة وذات النقاش العقيم: هل يوجد قائمة مُشتركة؟ وللدقّة، هل تستطيع الأحزاب مع قرب موعد الانتخابات، في كُل مرّة جديدة، وضع خلافاتها ومشاكلها التي تستمر بشكل عام طيلة فترة حياة الكنيست جانبًا، وإعادة إنتاج الوحدة والقائمة المشتركة لخوض الانتخابات؟ هذا هو السؤال الأساسيّ الذي ينشغل به الفلسطينيّون في أراضي 1948 مع كُل انتخابات جديدة، وقبل الموعد النهائيّ تخرج البشارة. وهذا كلّه، يأتي في وقت تفتقد القائمة فعلًا، إلى أي عامود فقريّ سياسيّ وإستراتيجيّ يضمن استمرارها، وتحوّلها من وحدة في مواجهة نسبة الحسم إلى وحدة ممأسسة في مواجهة مشروع استعماريّ، تضمن عدم انجرار الأحزاب أو الشخصيّات المركّبة لها إلى مراهنات سياسيّة فاشلة كالتي قام بها منصور عبّاس، النائب السابق في "المُشتركة"، ورئيس القائمة العربية الموحدة (الحركة الإسلاميّة الجنوبية).
"القائمة المُشتركة مركب فيه الكثير من الخروم، وصدِئ، ولكنّه المركب الوحيد. كُل من يخرج منه سيغرق". هذا ما قاله لي حرفيًا، قيادي فلسطيني في الداخل، خلال العام 2018. والغريب أن لا أحد من القيادات قام حتّى يومنا هذا، بترميم المركب ليقوى على حمل مشروع سياسيّ ويستمر في الإبحار. أمّا صحة هذه المقولة، فأثبتتها الأيّام: السؤال الوحيد لدى كُل من يُريد الخروج من القائمة هو سؤال إمكانيّة أو عدم إمكانيّة عبور نسبة الحسم وحيدًا. فعندما لم تتمكن القائمة المُشتركة من البقاء في انتخابات العام 2019، خاضت الانتخابات في قائمتين خوفًا من نسبة الحسم رغم كُل الخلافات؛ وعندما انشق منصور عبّاس في انتخابات العام 2020 عن القائمة كان يستند إلى دعم رؤساء سُلطات محليّة ويُراهن على عبور نسبة الحسم؛ وعندما بحث النائب أحمد الطيبي إمكانيّة التحالف مع منصور عبّاس، كانت نسبة الحسم العامل الأهم في بدء المُشاورات أصلًا. والأهم، في كُل جولة انتخابيّة بعد الانتخابات تبدأ الخلافات ليغدو أعضاء القائمة كالأنداد في الكنيست رغم دخولهم إليها كوحدة واحدة، وتصل الخلافات حد القطيعة الكليّة طيلة فترة الولاية في بعض الحالات. وهو ما يؤشّر إلى أن المركب يبقى في إطار المؤقت حتّى عبور مد الانتخابات.
يفتح هذا الواقع الذي عاشته القائمة المُشتركة، وتفكّكها الذي كان متوقعًا في دوائر عدّة حزبيّة وغير حزبيّة، الباب لمُراجعة تسريبات مَركبها التمثيليّ: ماذا حصل؟ كيف بدأت سلسلة الأخطاء الإستراتيجيّة؟ أين الضوابط؟ والأهم، أين البُنى السياسيّة التي كانت من الممكن أن تُشكّل المرجعيّة للقائمة التمثيليّة في الكنيست. ومن هُنا، ستُحاول هذه الورقة الغوص في تفاصيل حياة القائمة المُشتركة القصيرة والمتوتّرة جدًا، على طريق فهم تفكيكها النهائي.
نبدأ من "إسقاط نتنياهو" وصولًا إلى "التوصية على غانتس"
لا يُمكن قياس حياة القائمة المُشتركة دون التمعّن في أولى خطواتها نحو ما أطلق عليه رئيسها أيمن عودة، ولاحقًا بقيّة النوّاب بالـ"تأثير". وهو بالمُناسبة، لم يكن معزولًا عن السياق العام للحملة الانتخابيّة التي كان يُمكن اختزالها بـ"إسقاط نتنياهو" فقط، كمقولة أساس دارت الحملة حولها. إنّها مسيرة واحدة، انطلقت في الحملة الانتخابيّة، وكانت جيّدة تكتيكيًا من حيث قدرتها على التجييش، ومن خلالها استطاعت القائمة المُشتركة صناعة استقطاب في الشارع الفلسطينيّ فُرز على النحو التالي: صوّت للمشتركة لنُرسل نتنياهو إلى السجن؛ صوّت للمشتركة لإسقاط حكم نتنياهو واليمين. وساعد هذا الاستقطاب، القائمة في الجولة الانتخابيّة الثانية خلال العام 2020 في الحصول على 13 مقعدًا، ومع استمرار تحريض نتنياهو على العرب بصورة وحشية خلال فترة الانتخابات زاد الاستقطاب لتحصل القائمة في الجولة الثالثة على 15 مقعدًا.
هذا ما حصل فعلًا، ولكنّه كان نوعًا من النجاح التكتيكيّ الذي سيؤدّي لاحقًا إلى خلل إستراتيجيّ. فالحملة الإعلاميّة تُعد الأساس الذي يُبنى عليه ما بعد الانتخابات، والوعودات هُناك من يسأل عنها، والأمل في التأثير سيغدو أقرب إلى نار إن لم يحصل التأثير فعلًا. وفي إسرائيل، الدولة اليهوديّة التي بُنيت ديمقراطيّتها لتخدم وتعمل على إدامة "حكم اليهود"، فالتأثير الجوهريّ على البنية، حصريّ لليهود. ومن هُنا، كانت التوصية على بيني غانتس، رئيس حزب "أزرق أبيض"، بهدف إسقاط نتنياهو تحصيلًا حاصلًا. فبدلًا من الاستثمار في البنية الحزبيّة والسياسيّة للقائمة المُشتركة، بتنظيم الناس وإعادة دمجهم في مشروع سياسيّ تقوده بنية راسخة خارج الكنيست، توجّهت القائمة إلى التأثير من خلال البنية الإسرائيليّة ذاتها: نحن لا نوصي على غانتس حبًا فيه، بل بهدف إسقاط نتنياهو. هذا ما قاله أيمن عودة خلال التوصية لدى رئيس الدولة، وهذا ما فتح الباب أولًا وقبل كُل شيء إلى وضع الفلسطينيّين في الداخل أمام خيارات لم تكن موجودة سابقًا، وأمام أوهام بالتأثير تصطدم فعلًا بالإجماع الصهيونيّ. ولذلك، فالسؤال اليوم وقبل الانتخابات: هل ستقومون بالتوصية على يائير لابيد، رئيس حزب "يوجد مستقبل"؟ وكأن سؤال التوصية على رئيس حكومة إسرائيليّة، بات اليوم سؤال المفهوم ضمنًا.
لم تكن التوصية على غانتس بهذا القدر من التأثير على الوضع الإستراتيجيّ للفلسطينيّين في الداخل، دون الظروف التي تمّت فيها ومن خلالها: عدم وجود أي أفق أو مشروع سياسيّ للتوصية، بل على العكس من ذلك قام رئيس القائمة بتشبيهها بالتوصية على إسحاق رابين إبان اتفاق "أوسلو"، وشبّه ذاته بتوفيق زيّاد كما شبّه غانتس برابين، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الجوهريّ في الظرف السياسيّ؛ تركّزت المقايضة حول التوصية على القضايا المدنيّة، وتمّ التفاوض في سياق قام فيه غانتس، مرّة تلو الأخرى، بالتأكيد على أنّها دون شُروط، وتقوم على السقف المدنيّ فقط دون السياسيّ؛ عدم وجود إجماع سياسيّ داخل المشتركة على التوصية ذاتها، وداخل صفوف الجبهة العربية للتغيير في المشتركة أيضًا؛ اختزال التوصية بأنّها فقط لإسقاط نتنياهو الذي تم تصويره خلال الحملة الانتخابيّة على أنّه الشيطان الأكبر؛ عدم وجود تصوّر سياسيّ إستراتيجيّ للتوصية على غانتس في الأطر الأوسع من القائمة المُشتركة، سواء في لجنة المتابعة، أو مرجعيات الأحزاب داخل المشتركة.
وتشكل هذه الأسباب الموضوعيّة التي رافقت التوصية الضلع الإضافيّ الذي يعمل على تعزيز تأثير التوصية بشكل لا يُمكن الاستهانة به بتاتًا. وهو ما سمح، اليوم، لمنصور عبّاس، بادّعاء أنّه يسعى للتفاوض على الحقوق المدنيّة، دون أي ضوابط وطنيّة أو أخلاقيّة. وليس اعتباطًا أن يصمّم في كُل مقابلة على القول إنّنا "لسنا في جيب أحد، لا اليمين ولا اليسار"، في إشارة واضحة إلى حسم القائمة المُشتركة وتيّار رئيسها أيمن عودة، على اليسار الإسرائيليّ. وما يطرحه عبّاس عن كون العرب ليسوا في جيبة أحد مُهم، لولا أنّه لا يستمر في سلوكه ليقول ضمنًا: نحن في جيبة من يدفع أكثر.
يُمكن القول إن هذا الخطأ إذا ما امتزج بالظروف الموضوعيّة أدّى إلى ما نحن عليه اليوم. ولكن للدقّة، فإن هذا لم يحصل للمشتركة برمّتها كوحدة، بل التقى مع ظروف موضوعيّة أخرى داخليّة للأحزاب السياسيّة ضمن القائمة. وأهمها صراعان داخليان:
الأول، الصراع الداخليّ في الجبهة حول النهج الذي سار فيه أيمن عودة، النجوميّة الفرديّة والقرارات الانفراديّة على حساب الحزب والقرارات الحزبيّة ولجنة المُتابعة بصفتها المرجعيّة والصراع مع رئيسها. ولعل هذا الصراع هو الأهم الذي حصل في الداخل خلال الفترة الماضية، إذ برزت مع تأسيس القائمة المُشتركة، وتحديدًا منذ انتخابات العام 2020، نجوميّة فرديّة في القائمة على حساب العمل التنظيميّ والحزبيّ، وشكّلت التوصية إحدى أهم صور هذه المرحلة، ويُشكّل تراجع مكانة لجنة المُتابعة صورة إضافية مُهمة.
أما الصراع الثاني فتمثل في تراجع دور التجمّع كحزب ذي طرح قوميّ منظّم وبنية أيديولوجيّة وتنظيميّة ناجعة قادرة على رفع السقف السياسيّ للقائمة برمّتها، وتبديل قيادته وضعف إيمانه بطرحه وطريقه، ما فتح المجال أمام التوصية على غانتس بموافقة التجمّع ومشاركته فيها أيضًا. وهُنا، من المهم الإشارة إلى أن تبديل قيادات التجمّع ذات الخبرة الطويلة والصوت الواضح، لصالح قيادات جديدة دون خبرة، رافقها تراجع في مكانة الحزب جعلته أسيرًا لتوجّهات المشتركة عامة. وللدقة، فإن الصراع على التوصية داخل المشتركة كان أقرب ليكون صراعًا داخليًا جبهويًا أكثر منه صراع بين التجمّع والجبهة.
منصور عبّاس ... انشقاق أم فُرصة؟
جاء انشقاق منصور عبّاس عن المُشتركة كرهان باتّجاهين: أولًا، أن المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 1948، ومع تفشّي منظومة العنف والفقر والتهميش، قد وصل إلى حد فيه يقبل التفاوض والجلوس ودعم نتنياهو مُقابل حلول موضعيّة لموازنات وتحويل أموال إلى السلطات المحليّة؛ وثانيًا، رهان على نُخب جديدة تستطيع استبدال القوى التقليديّة الرسميّة وتتلخّص في رجال أعمال كيعقوب أبو القيعان من النقب، ورؤساء سلطات محليّة كعلي سلّام، رئيس بلديّة الناصرة، ومازن غنايم، رئيس بلديّة سخنين السابق. هذا هو الرهان الأساسيّ، رهان انتخابيّ اعتقد ويعتقد عبّاس من خلاله أن يستطيع بناء مركب بديل عن مركب المُشتركة. أمّا أداة التحريض والحملة للوصول إلى هذا المركب، فتنقسم إلى جزئين: الأول والأساسيّ، القضايا الاجتماعيّة والدينيّة، كقضيّة المثليين، وحصلت تحديدًا بعد تصويت في الكنيست لمنع "علاج المثليين"، واستغلها ليشن حملة ضد عايدة توما، النائب عن الجبهة، ولاحقًا ضد المُشتركة بادّعاء أنهم يشجّعون المثليّة، وجاء هذا أيضًا في البيان الذي نص على شروط استمرار وجوده في المُشتركة. أمّا الثاني، وهو لا يقل خطورة، فكان الطلب من المُشتركة توضيح نيّتها مع من تُريد التعامل في السياسة الإسرائيليّة بدلًا من نتنياهو. وباختصار: فإن منصور عباس جذريّ مع المُجتمع داخليًا؛ ويشترط التعامل مع حكومة إسرائيليّة كشرط للبقاء.
إن التحريض داخليًا يؤجّج الاستقطاب داخل المُجتمع الفلسطينيّ، وهو ما اعتقد عبّاس أنّه سيساعده على تخطّي القائم وبناء بديل، والذهاب نحو نتنياهو وبدائله التي يدّعي هو ومازن غنايم أنّها ستكون أسوأ من نتنياهو، ما من شأنّه أن يحمّل القيادة العربيّة المسؤوليّة عن الظروف الكارثيّة التي يعيشها المُجتمع. وكأن الأزمة فينا، وفي عدم تعاملنا مع الحكومات الإسرائيليّة المُتعاقبة، وليس في بنية الدولة اليهوديّة والمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الذي تُجسّده إسرائيل.
حتّى كتابة هذه السطور، تتوقّع الغالبيّة العظمى من استطلاعات الرأي التي تنشرها وسائل الإعلام الإسرائيليّة عدم عبور القائمة العربية الموحدة التي يرأسها عباس نسبة الحسم، كما تتوقّع جميع الاستطلاعات التي تُجريها القائمة المُشتركة بشكل خاص عدم عبور عبّاس نسبة الحسم، بحسب مصادر في المُشتركة. والسؤال في هذا الواقع، هل من المُمكن أن يتحوّل هذا الانشقاق إلى فُرصة يتم من خلالها إعدام صعود هذا التيّار في أراضيّ 48 ورموزه؟ هذا التيّار الآخذ بالتصاعد ويُطالب بالاندماج في المشروع الاستعماريّ الإسرائيليّ من جهة، ويحرّض اجتماعيًا داخليًا في ذات الوقت، ويتبنّى مقولة "التغيير" لصالح التغيير المتأسرل. فهُناك فرصة لوقف نمو هذا التيار، اليوم، وعلى ما يبدو أن هذا التيّار قد تسرّع في قراءة المُجتمع، واستنتج أن المُجتمع قد نضج بشكل كافٍ للتأسرل كليًا والتحالف مع اليمين الإسرائيليّ.
وليس اعتباطًا أن تسخر النُخب الإسرائيليّة من تحالف نتنياهو مع منصور عبّاس والمتطرّف الإرهابيّ إيتمار بن غفير في ذات الوقت، فتقول: كلاهما يكره المثليين. وخطورة هذا النهج كبيرة جدًا، أولًا على المجتمع داخليًا من خلال الحملات التحريضيّة الداخليّة، وثانيًا، والأهم، على الهويّة السياسيّة في الداخل، وتحويل الفلسطينيين إلى مجرّد أشياء: ليسوا مواطنين في دولة اليهود، وليسوا جزءًا من الحالة الفلسطينيّة حتّى على الصعيد الهويّاتيّ، وهم مجرّد مستهلكين يطمحون إلى موازنات وفتات في الدولة اليهوديّة دون أي هويّة سياسيّة. واليوم، وفي هذه الانتخابات، هُناك فُرصة لمنع نمو هذا التيّار وإعادة تحجيمه.
ويتطلب إعادة تحجيم هذا التيّار عامودًا فقريًّا يُفقده نقاط القوّة: التفاوض على القضايا المدنيّة دون ضوابط سياسيّة؛ الشعبويّة والنجوميّة على حساب التنظيم السياسيّ والهيئات التمثيليّة؛ الحمائليّة والقبليّة والتحريض الاجتماعيّ الداخليّ. هذه هي نقاط قوّة هذا التيّار الذي يرأسه منصور عبّاس اليوم، وستكون هُناك أسماء أخرى إن لم تتغيّر الحالة السياسيّة في الداخل، وإن لم تقم الأحزاب بإعادة بناء ذاتها والهيئات التمثيليّة كلجنة المُتابعة وغيرها من المؤسسات الجامعة التي تحوي القوى جميعها، كالحركة الإسلاميّة الشماليّة وأبناء البلد. وبكلمات أخرى: تيّار منصور عبّاس، يعيش حرفيًا ورمزيًا على انهيار الحالة السياسيّة والتنظيميّة والحزبيّة في أراضيّ 1948 بشكل غير مُباشر. أمّا بشكل مُباشر، فإنّه يعتاش على أخطاء المُشتركة ذاتها، شعبويّتها، المصطلحات العامّة والفضفاضة التي تبنّتها كـ"التأثير". أمّا التيّار عمومًا فإنه غير مرتبط بمنصور عبّاس الشخص ولا الحركة الإسلاميّة عمومًا، بل أعمق من ذلك بكثير، وهو في حالة تنامٍ مُجتمعيّ خطير جدًا، والمؤشرات كثيرة، ومن أهمها حصول "ميرتس" في الانتخابات التي انشقّت فيها القائمة المُشتركة في المرة الأولى، على أكثر من مقعد بسبب أصوات العرب، وهو ما يعنيّ أن تفكك المُشتركة سيصب في صالح الأحزاب الصهيونيّة، ويؤشّر إلى أن الأزمة أعمق من مجرّد تيّار يقوده منصور عبّاس اليوم، إنّما في تهميش العمل السياسيّ النضاليّ والهويّة الوطنيّة.
ماذا يعني استعادة السياسة؟
استعادة السياسة تعني بالضرورة استعادة الوطنيّة في السياسة. ولتحقيق ذلك، هُناك حاجة إلى إجراء مُراجعة للنهج الذي سارت فيه القائمة المُشتركة، وأدّى إلى التوصية على غانتس، وما أفرزته هذه التوصية في الظروف الحاليّة، خاصة أن أصواتًا كثيرة خرجت ضدّها، في ادّعاء أنّها منحدر لا يُمكن التنبؤ إلى أين سيفضي بالسياسة في أراضي 48، وعلى ما يبدو فإنّه فتح المجال للبدء في المسار الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
تتمثل التوصية الأساسيّة لهذه الورقة في إجراء مُراجعة، والاعتراف بالخطأ، أو الإعلان أنّه لم يكن خطأ أصلًا. وهُنا من المهم الإشارة إلى أن التجمّع هو الحزب الوحيد الذي أجرى هذه المراجعة مرتين: أولًا حين أعلن أنها كانت خطأ ويعتذر عنه؛ والثانية حين استبدل النائب إمطانس شحادة وحاسبه على ذهابه إلى بيت رئيس الدولة والتوصية على غانتس. أمّا الجبهة، فإنّها لا تزال حتّى اليوم دون إجراء هذه المراجعة رغم أن رئيس القائمة هو من دفع إليها بكُل قوّة. بل على العكس، تُشير مصادر مُختلفة، إلى أن الصراع في الجبهة حول صوابيّة الخطوة كان ولا يزال محتدمًا. وللدقّة، كان النقاش الداخليّ جبهويًا خلال اتّخاذ الخطوة، ولا يزال مستمرًا حتّى اليوم، دون أن يُحسم ودون نقاش علنيّ حوله، ما من شأنه أن يكون غاية في الأهميّة في هذه المرحلة تحديدًا. فمثلًا، الإقرار بعدم صواب الخطوة، من شأنه أن يسحب البساط من تحت خطاب منصور عبّاس الذي يقول "لا يوجد يسار ولا يمين"، ليستنتج أنّه سيدعم نتنياهو. والغريب، أن رئيس القائمة المُشتركة لا يزال مصممًا على صواب الخطوة رغم انهيار مُعسكر غانتس وغانتس وحزبه أيضًا، وهو ما يفتح الباب لسؤال أهم حول المُستقبل، وإن كانت المشتركة ستتوجّه مرّة أخرى للتوصية على يائير لابيد، ما يؤبّد فكرة التوصية على رئيس حكومة، وما يفتح الباب لمزايدات عكسيّة بين عودة وعبّاس: أي منّا يستطيع الاندماج أكثر في مشروع إسرائيل؟ وهُنا ستبدأ جولة إضافية من الأسرلة في الحقيقة.
التأثير مُمكن، ولكنّه في ظرف سياسيّ كالظرف الذي يعمل فيه الفلسطينيّون في الداخل، في ظل مشروع استعماريّ يُعاديهم ويعادي وجودهم، يغدو مركبًا. ولا يُمكن الاستناد إلى السياسة الإسرائيليّة وقواعدها فقط لتحقيقه. هُناك حاجة ضروريّة للتأثير، وليس فقط على السياسة الإسرائيليّة، إنّما بالأساس على حياة الناس وتحسينها: إعادة بناء الإطار السياسيّ الذي يجمع ويُشكّل في ذات الوقت حامية في حال انهيار أو تردّي الوضع السياسيّ الإسرائيليّ الذي تعيش فيه القائمة المُشتركة. فالتأثير، والإنجازات التي تدّعي القائمة تحقيقها كتجميد قانون كيمينتس مثلًا، وهو القانون الذي هدّد عشرات المنازل بالهدم مُهم جدًا، ولكنّه تجمّد فقط، وقضيّة الأرض والمسكن بالنسبة إلى الفلسطينيّ هي قضيّة صراع على الحيّز مع البنية الصهيونيّة برمّتها والأزمة في السيطرة على الحيّز. أمّا التأثير الذي يستند إليه أيمن عودة مثلًا بمقولة إن الفلسطيني بات شرعيًا في السياسة الإسرائيليّة بعد التوصية والانخراط والمُشتركة، فإنّه يبقى في إطار القبول تحت سقف موافقة المُشتركة على التعاطي مع غانتس دون ضوابط وطنيّة، ومع خروج البعد الوطنيّ النضاليّ سيختفي.
ومن المهم التنويه إلى أن التأثير الحقيقيّ على السياسة الإسرائيليّة والظرف الذي يعيشه الفلسطينيّون يُمكن أن يكون فقط في حالتين: إمّا وجود مشروع سياسيّ فلسطينيّ شامل كما حصل خلال مشروع التسوية، حين قامت القوى السياسيّة في أراضي 48 بتشكيل جسم مانع للمصادقة على اتفاق "أوسلو"، ولذلك يقوم أيمن عودة مثلًا بالتذكير بالجسم المانع دائمًا؛ وإمّا تنظيم الناس بشكل يجعل من المُشتركة ذراعًا في نضال شامل في الشارع من خلال الفعل السياسيّ والتنظيم والمشروع، ويكون الناس جزءًا منه بصفتهم ضحايا وليس مصوتين فقط، أمّا التأثير الحصريّ على السياسة الإسرائيليّة من خلال السياسة الإسرائيليّة، فإنّه يبقى قاصرًا في التأثير على حياة الناس بصورة أعمق وإيجابيّة.
أمّا بعد، أي بعد الانتخابات، فهُناك حاجة ماسّة إلى إعادة بناء الحالة السياسيّة الوطنيّة من خلال:
أولًا: إجراء حوار شامل يقوم على تصوّر المستقبل، ووضع الخيارات والاحتمالات جميعها بعين الاعتبار، خاصة توجّه الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة، وهامش المواطنة الذي بات المساحة الوحيدة المُهدّدة بقوّة في أعقاب حرب اليمين مع القضاء.
ثانيًا: وضع خطوط واضحة وحدود للممكن وغير المُمكن في السياسة الإسرائيليّة: متى نخسر كينونتنا في طريق البحث عن الحقوق المدنيّة؟ هذا السؤال الذي كان تاريخيًا في عداد المفهوم ضمنًا، وكانت الإجابة أنّنا نتوقّف حين نبدأ بخسارة هويّتنا الوطنيّة، لم يعد كذلك اليوم، فالفوضى والانهيار الأخلاقي والسياسيّ هو المفهوم ضمنًا للأسف.
ثالثًا: إعادة تنظيم العلاقة ما بين القائمة المُشتركة والهيئات التمثيليّة المرجعيّة بوصفها المرجعيّة الأساسيّة للمُشتركة وغيرها، التي تُعدّ ذراعًا للعمل السياسيّ ولا تُعتبر العمل السياسيّ برمّته.
رابعًا: إعادة بناء مشروع سياسيّ يفرز العلاقة مع الحالة الفلسطينيّة سياسيًا وليس فقط ثقافيًا وتاريخيًا، ويحسم حدود التعاطي القانوني والمدني مع المشروع الاستعماريّ. وهذا المسار، رغم صعوبته، إلّا أنه المسار الوحيد في الحقيقة، الذي من شأنه منع حالة الانهيار الأخلاقي والسياسيّ، فالتعاطي مع اليمين الإسرائيليّ بهذا الشكل ومع المشروع الاستعماريّ بهذه الصورة لا يمكن أن يكون فقط عبارة عن فشل سياسيّ، بل أخلاقيّ أيضًا، ولا يقل أهميّة عن موضوع العنف.
[email protected]