هناك أسئلة مهمة تطرحها مقاربة إجراء الانتخابات أولًا، وقبل إنهاء الانقسام، وتجاهل قضايا كثيرة، أهمها المنظمة، ومنها:
السؤال الأول: ماذا لو فازت فتح وحدها أو مع حلفائها بالأغلبية، ولم يتم الاتفاق على حكومة وحدة وطنية لأسباب داخلية أو خارجية أو كليهما، فهل تتنازل "حماس" في هذه الحالة عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة؟
الجواب: لا بكل تأكيد، لأن "حماس" قدمت كل "التنازلات" لعقد الانتخابات مقابل شيء سخي، وهو بقاء سيطرتها على قطاع غزة.
وإذا تنازلت، هل تتمكن السلطة من مدّ نفوذها إلى غزة في ظل الواقع الذي أقامته "حماس"، خصوصًا العسكري، حيث امتدت جذورها عميقًا فيها، بعد أكثر من 13 عامًا على الانقسام، وفي ظل وجود فصائل تملك أجنحة عسكرية لا بد أن تبرر وجودها بين الحين والآخر، تجعلها أقوى من السلطة بكثير، ما يجعل الحكومة إذا كانت ائتلافية مجرد غطاء أو طربوش لاستمرار الانقسام لا أكثر؟
السؤال الثاني: ماذا إذا فازت "حماس" وحدها أو مع حلفائها، فهل ستتمكن من الحكم والحكومة في الضفة، أم في أحسن الأحوال ستمنح حق تشكيل الحكومة، ولن تُمكن من الحكم مثلما جرى بعد الانتخابات التشريعية السابقة؟
وإذا مكّن الرئيسُ و"فتح" "حماس" من الحكم والحكومة، هل سيسمح الاحتلال بذلك، طبعًا لا وهو اللاعب الرئيسي الذي يتحكم بمقاليد الأمور في الضفة المحتلة.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف أمام الموقف الأميركي والأوروبي والدولي والعربي، فهل سيتعامل أو لن يتعامل مع حكومة تقودها أو تتحكم أو حتى تشارك فيها "حماس"؟
الأكثر احتمالًا عدم التعامل إلا إذا غيّرت "حماس" من جلدها، وخطت المزيد من الخطوات على طريق تأهيل نفسها للاعتراف بها كلاعب رئيسي، عبر الالتزام بالتزامات أوسلو، أو غض النظر عن استمرارها، والقبول ببقاء سلطة الحكم الذاتي على أساس "ليس بالإمكان أبدع مما كان".
السؤال الثالث: هل الانتخابات وسيلة أم غاية؟ وهل وظيفتها استنساخ الوضع القائم بانقسامه ورموزه وفساده وترهله وإخفاقاته ... إلخ، ومنح شرعية للسلطة القائمة والنخبة نفسها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وتمديد المرحلة الانتقالية إلى الأبد، أم وظيفتها التعبير عن إرادة ومصلحة الشعب الفلسطيني بالتجديد والتغيير والإصلاح، وتغيير المسار، والتقدم على طريق إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية والعودة والاستقلال والمساواة كمرحلة على طريق الحل التاريخي النهائي الديمقراطي، وهذا تحقيقه ضروري ويحتاج لكي يتحقق إلى مقاربة أخرى غير المعمول بها الآن؟
السؤال الرابع: ما العمل إذا شهدت الانتخابات عمليات تزوير وتدخلات خارجية بطرق مختلفة، منها التمويل الخارجي، وتفعيل العمل بشروط الرباعية، وقيام الاحتلال باعتقال مرشحين أو تهديدهم لمنع ترشيحهم و/أو اعتقالهم بعد فوزهم كما حدث في السابق؟
ولا يوفر ضمانات لمنع ذلك التوقيع على ميثاق شرف، على أهمية ذلك، ولا الضمانات الخارجية تكفي لأنها أدبية، ولا يكفي وجود مراقبين محليين ودوليين، فلا يجب أن ننسى أن الانتخابات تجري في فلسطين المحتلة وفي ظل وجود سلطتين متنازعتين لهما تاريخ من عدم الثقة والشيطنة المتبادلة، وتملك كل منهما أجهزة أمنية وأدوات وإمكانات التدخل والتزوير إذا احتاج الأمر. ولمن يقلل من احتمال حدوث التزوير عليه أن يتذكر ما جرى من انقلاب، ومن تسليم للحكومة لا الحكم، واستخدام السلطة والحكومة كطربوش وتحصيل مكاسب ورواتب وخلافهما، وتوظيف المقاطعة الإسرائيلية والأميركية والدولية لمصلحة طرف، واستمرار الانقسام وتعميقه. وعلى من يستبعد التزوير أن يقف أمام غزوة الكابيتول التي حصلت في أقوى دولة في العالم وصاحبة التقاليد العريقة والمؤسسات القوية.
السؤال الخامس: إذا لم يتم الاتفاق بشكل جدي وملزم على الهدف الوطني وأشكال النضال السلمية والمسلحة والكفاحية لتحقيقه، والموقف من الشرعية الدولية والقانون الدولي، وعلى كيفية التعامل مع سلطة أوسلو والالتزامات المترتبة عليها، وحول تمديد المرحلة الانتقالية حتى إشعار آخر، وإذا لم يتم توفير المستلزمات السياسية والقانونية وغيرها، سنجد إمكانية لتخريب العملية الانتخابية، سواء قبل الوصول إليها، أو بعيد بدئها، أو بعد انتهائها، ويمكن أن يحدث ذلك من خلال:
أولًا: الإقدام على استئناف المفاوضات من دون شروط، أي بلا مرجعية تلتزم بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ومن دون وقف الاستعمار الاستيطاني والضم الزاحف وتهويد القدس وإطلاق سراح الأسرى، وهذا محتمل ولا يمكن استبعاده إن لم تتم الوحدة على أساس إستراتيجية مشتركة.
ثانيًا: استخدام المقاومة المسلحة في الضفة أو غيرها، أو إطلاق الصواريخ ممارسة لحق الشعب تحت الاحتلال بالمقاومة، أو خدمة لمصالح فئوية فصائلية من دون توافق وطني.
إن العودة إلى مفاوضات عبثية أو مقاومة مسلحة أحادية من دون إستراتيجية موحدة وقرار وطني يعني تهديد الانتخابات قبل أو بعد إجرائها، أو تهديد نتائجها إذا حدثت بعد إجرائها.
ثالثًا: إن هناك عراقيل عديدة قانونية تتعلق بالمراسيم، وبالتعيينات المتعلقة بالسلطة القضائية والمحاكم والقضاء، التي أجهزت على استقلال السلطة القضائية، وكذلك التي تضمنت تسمية الرئيس بقانون الانتخابات رئيس دولة بينما المرسوم يتناول انتخابات رئاسة السلطة.
وهذا يتطلب تشكيل محكمة الانتخابات بالتوافق، وليس بتنسيب من مجلس القضاء، ووضع ترتيبات أمنية من جهات محايدة لضمان حرية ونزاهة الانتخابات، واحترام نتائجها، وامتناع السلطتين عن اتخاذ قرارات وتعيينات وترضيات لصالح كتلة انتخابية بعينها، وضرورة شمول القدس بالتعديلات لتجاوز العقبة الإسرائيلية التي يمكن استخدامها بأي وقت لتعطيل إجراء الانتخابات إذا احتاج الأمر.
لماذا إثارة هذه الأسئلة ضروري، ليس لوضع العصي في الدواليب، ولا للتشكيك، وإنما بهدف توفير مستلزمات إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، التي أهمها أن تجري في إطار الوحدة والتوافق على برنامج القواسم المشتركة، وأسس الشراكة، وألا تقتصر على السلطة، بل ويشمل الاتفاق المنظمة فعلًا لا قولًا، ولأن الانقسام جرى منذ 13 عامًا وجرت محاولات كثيرة لإنهائه عبر اتفاقات ومبادرات أخذت طريقها للتطبيق من خلال الدعوة إلى إجراء الانتخابات كمدخل وليس كتتويج، أو من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني، أو عبر تمكين الحكومة أولًا، أو عبر تشكيل لجنة تحضيرية للتحضير لعقد مجلس وطني وفشلت، ويجب معالجة أسباب الفشل قبل الدخول في تجربة لا تتوفر لها شروط كافية للنجاح. فليس مقبولًا القول لنجرب، ويمكن أن تؤدي إلى إنهاء الانقسام.
ومع أهمية رؤية المتغيرات والظروف التي تدفع إلى النجاح، أو إلى إجراء الانتخابات، وأهمها تجديد شرعية القيادة والسلطة المتآكلة والاستعداد للمتغيرات والتحركات القادمة، إلا أن البنية التي أوجدها الاحتلال والانقسام قوية، ولا يمكن تغييرها من خلال تجاهلها والتصرف معها مثل النعامة.
فما يميز المحاولة الجديدة إضافة إلى أنها تركز على الانتخابات أنها تحاول الاتفاق على برنامج سياسي (وهذا جيد وبحاجة إلى استكمال)، وأنها جاءت على أرضية موقف إجماع وطني رافض لخطة ترامب نتنياهو، ومتسلحة بقرار التحلل من الاتفاقيات الذي تم التراجع عنه بشكل انفرادي، وما يعيبها أن تركز على تشكيل قائمة مشتركة ومرشح رئاسي توافقي.
كان ممكنًا قبل شهور عدة تحدي واشنطن وتل أبيب من القيادة بدعم من الفصائل والشعب، وعندها لم يتبق ما يمكن أن نخسره فكل شيء كان مهددًا بالتصفية. أما الآن بعد فوز بايدن، فهناك مقاربة مختلفة تتضمن العودة إلى حل الدولتين واستئناف العلاقة الأميركية الفلسطينية، وعودة المساعدات، وفتح مكتب المنظمة، والسعي لإحياء عملية التسوية، وهذا يتطلب بقاء السلطة ودعمها، ولكن كسلطة أوسلو وحكم ذاتي، وذلك لكي تغطي على الواقع الذي يقيمه الاحتلال من خلال الضم الزاحف وشق الطريق للتقدم على طريق الضم القانوني، ولتساعد على احتواء الوضع الفلسطيني وعدم تدهوره، واستكشاف إمكانية التوصل إلى حل أفقه السياسي لا يختلف جوهريًا عن خطة ترامب نتنياهو، فالأخير صاحب الخطة الأصلي، وهو باق في الحكم، أو سيأتي بعد الانتخابات الإسرائيلية من هو أكثر تطرفًا منه كما تشير استطلاعات الرأي في إسرائيل.
كما أن الوضع العربي أصبح أسوأ ومرشحًا للمزيد من التدهور وتطبيع المزيد من الدول العربية إن لم نعرف كيف نتعامل مع هذا الوضع الجديد.
أما إدارة بايدن فستكون مشغولة بقضايا أخرى كثيرة، ولن تضغط جديًا على إسرائيل بالقضايا المختلف عليها بينهما، وأقصى ما يمكن الضغط فيما يتعلق بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ويمكن أن تكون الأرضية على حسابنا.
لو كانت الأرض الفلسطينية مشتعلة بالمقاومة والمقاطعة وصولًا إلى الانتفاضة الشعبية الشاملة، على أساس وحدة وطنية وشراكة حقيقية وبرنامج مشترك، لكان بمقدورنا أن نفرض على الجميع وعلى بايدن ومن يحكم إسرائيل الالتفات إلى قضيتنا وأخذ مصالحنا وحقوقنا بالحسبان، ولكن طغيان الصراع على السلطة والمصالح والمكاسب والتمثيل والقيادة والقرار، والخضوع للتحالفات والمحاور العربية والإقليمية والدولية على أي شيء آخر؛ يجعل القضية الفلسطينية تتراجع، وتبدو كأنها شأن داخلي إسرائيلي، ويُفضّل التعامل معها كسلطتين بأفق تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال والحصار والسلام الاقتصادي.
إذا كان هناك وعي وإرادة فهناك حل وطني. صحيح أن هذا صعب، ولكنه ليس مستحيلًا، وعنوانه حل الرزمة الشاملة التي تطبق بالتزامن وبالتوازي. ومع ذلك، وحتى نكون عمليين، هناك خطوات يمكن أن تتخذ لرفع إمكانية نجاح المحاولة الراهنة وزيادة مكاسبها وتقليل أضرارها منها:
أولًا: ألا يكون الحوار القادم فصائليًا فقط، بل يتوسع بمشاركة ممثلين عن مختلف القطاعات والتجمعات والشباب والمرأة والكفاءات والمستقلين غير المحسوبين على هذا الطرف أو ذاك، ومن مختلف التجمعات بما فيها أماكن وبلدان اللجوء والشتات.
ثانيًا: ألا ينحصر الحوار بمستلزمات العملية الانتخابية، بل يشمل عددًا من القضايا المحورية، مثل البرنامج الوطني، وتشكيل حكومة انتقالية للتحضير والإشراف على خلق أجواء الثقة التي تُمكّن لجنة الانتخابات من تنفيذ إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتغيير شكل ووظائف والتزامات السلطة، وتحديد علاقتها بالمنظمة، وإنهاء المرحلة الانتقالية والتزامات أوسلو ضمن خطة عملية ذات سقف زمني قصير، والاتفاق على أسس الشراكة والديمقراطية التوافقية التي تضمن مشاركة كل قوى وعناصر الحركة الوطنية بمختلف مكوناتها وأبعادها العربية والإسلامية والإنسانية والأممية، على أن يتم تجميد تفعيل مبدأ تداول السلطة إلى حين دحر الاحتلال وتجسيد دولة مستقلة ذات سيادة، بحيث تحكم قواعد الجبهة الوطنية كل المؤسسات، وعلى رأسها الحكومة التي يجب أن تكون ائتلافية في كل الأحوال، وذلك ضمن معايير وطنية ومهنية وموضوعية وليس عبر نظام الكوتا.
من دون السعي لتوفير مستلزمات إجراء انتخابات حرة ونزيهة، يمكن ألا تجري الانتخابات، وإذا جرت ستكون قفزة في المجهول.
ثالثًا: إن الحلول التي اعتمدت حتى الآن تركز على الشكليات والإجراءات والمحاصصة الفصائلية الثنائية وليس على القضايا المحورية، وتمس بالحريات والحقوق، مثل دعوة أصحاب اللحى والرموز والقيادات إلى عدم الترشح، وترشيح شخصيات "لايت" مقبولة وليست مدرجة على قائمة الإرهاب، أو ترشيح عدد أكبر من قطاع غزة كون القاطنون فيه إذا نجحوا غير معرضين للاعتقال. فهل يعقل هذا؟
[email protected]