انتظرت الأحزاب السياسية الإسرائيلية انتهاء الانتخابات الأمريكية لحسم موقفها بالنسبة للانتخابات المبكرة وموعدها. وإذ يريد نتنياهو انتخابات سريعة، إذا فاز ترامب، فإنّ غانتس يريدها أسرع في حال فوز بايدن. وحين تنتهي الانتخابات في الولايات المتحدة، يبدأ الجري السريع نحو منافسة انتخابية جديدة في إسرائيل، هي الرابعة في إسرائيل، خلال أقل من عامين.
ما من شك في أنّ لمخرجات الانتخابات الأمريكية تأثير هائل على مجريات الأمور في الشرق الأوسط والعالم العربي، وعلى الجبهات الملتهبة والقضايا الشائكة في فلسطين واليمن وليبيا وسوريا والعراق والخليج وإيران وتركيا. وقد بدأت كل الأطراف تجهيز نفسها للاستفادة من الفرص ولاتقاء شر الأضرار الممكنة.
وفي أجواء «الزمن العربي الرديء» فإن للانتخابات الإسرائيلية المقبلة أثرا كبيرا أيضًا، خاصة أن عددا من الدول العربية دخلت في ارتباط مع إسرائيل يتعدّى العلاقة الدبلوماسية نحو تعاون وتحالف وشراكة، وكلمة تطبيع هي تقزيم لطبيعة هذه الارتباط. وفي هذه الانتخابات تفضّل بعض الدول العربية بقاء نتنياهو في السلطة، وذلك لأن في ذلك ضمانا لاستمرار الخطّ المتشدد في الملف الإيراني، وللمحافظة على «الانقسام» الفلسطيني، الذي يتمنّى له بعض القادة العرب «طول العمر والبقاء». وفي أجواء «الزمن الفلسطيني الرديء» لا تنتج الحالة الفلسطينية أحداثًا مهمّة ولا تحركات لها أثر، وكل ما فيها هو الانتظار والمزيد من الانتظار لما سيحدث، وكأنّ القيادة الفلسطينية متفرّجة على ما يجري وليست فاعلة فعلًا. فبعد طول انتظار الانتخابات الأمريكية، والامتناع عن حركة، أو تحريك من شأنه أن «يستبق الحدث» سيأتي، على ما يبدو، طول انتظار الحدث المقبل وهو الانتخابات الإسرائيلية وما يحاك حولها من سراب وأوهام.
هناك سيناريوهات متعددة حول موعد الانتخابات الإسرائيلية، والاصطفاف الحزبي قبلها، وطبيعة المنافسة خلالها. لكن لسنا بحاجة لانتظار النتائج فهي معروفة سلفًا، ومن المؤكّد أن اليمين سيفوز فيها، وسيشكّل حكومة أكثر تطرفًا وعنصرية. عدم الانتظار لا يعني عدم الانتباه وعدم الأخذ بعين الاعتبار، فما تقوم به وتحضّر له إسرائيل له الأثر الأكبر على الحالة الفلسطينية، وعلى القضية ومصيرها. المشكلة هي في الاكتفاء بالانتظار وعدم الفعل، وإذا كان من الواضح أن إسرائيل أصبحت أكثر يمينية، وأقل استعدادًا للتوصل إلى تسوية من أي نوع، فمن الحكمة الإعلان عن موت التسوية وتحميلها المسؤولية. من الحكمة ومن المسؤولية الاستنتاج بأن إسرائيل غير ناضجة للتسوية وغير قادرة على إنتاج جوّاني للسلام العادل، حتى ذلك الذي يقبل به أكثر الفلسطينيين تفريطًا.. فعلام الانتظار إذن؟
ولماذا لا تقوم الحركة الوطنية الفلسطينية بما هو مطلوب من توحيد للمؤسسات وللفعل السياسي ومن تفعيل للمقاومة الشعبية، التي كلّما كثر الحديث عنها قلّ العمل بها. يقول أصحاب سياسة الانتظار إنّ الحراك الفلسطيني الموحّد والمقاوم للاحتلال يسبب زعلًا أمريكيًا، ويؤدّي على الصعيد الإسرائيلي إلى تقوية اليمين وإضعاف المركز واليسار. لا يمكن وصف هذه السياسة بالسذاجة، فهي تستند إلى أوهام زرعتها هي. الواقع ان أحد أسباب ازدياد قوّة اليمين، هو ان المجتمع الإسرائيلي لا يدفع ثمن الاحتلال وممارساته القمعية، ويتباهي نتنياهو بأن قوّة إسرائيل وقبضتها الحديدية هي ضمان الهدوء والأمن والاستقرار، مع بقاء الاحتلال والاستيطان. لقد اختفى اليسار الصهيوني كقوّة سياسية لها وزن، وكان من المتوقّع ان تفلس صناعة الأوهام المعطوبة، التي حرص ممثلوه على إنتاجها، خصوصًا يوسي بيلين وشمعون بيريس، وفعلًا اختفت منتجات هذه الصناعة من الأسواق، ولكننا نكتشف أنّ القيادة الفلسطينية قامت بتخزين ما هو كاف منها لاستعماله واستهلاكه عندما تلوح الفرصة. لا يمكن تفسير الانتظار الفلسطيني للانتخابات الأمريكية والإسرائيلية والامتناع عن تطبيق الوحدة وعن تفعيل المقاومة الشعبية، إلّا على هذا الأساس.
لقد تغيّرت الأوضاع في إسرائيل، إذ لم يعد اليسار الصهيوني منافسًا لليمين، ولم تعد حتّى قوى مركز ـ يمين، التي يمثّلها يئير لبيد، زعيم حزب «يش عتيد» والجنرال المتقاعد بيني غانتس، رئيس «كحول لافان» تشكّل بديلًا لحكم اليمين. لقد انتقلت المنافسة على السلطة في إسرائيل الى عراك بين اليمين واليمين المتطرف، بين بنيامين نتنياهو من الليكود، ونفتالي بينيت رئيس حزب «يمينا» اليميني المتطرف. ما يجعل أوهام المفاوضات وسراب السلام خارج إمكانيات الخيال. تشير كل استطلاعات الرأي، التي نشرت في الأسابيع الأخيرة، إلى أن الليكود سيبقى الحزب الأكبر، لكنّه سيخسر من قوّته ويحصل على 30 مقعدًا. يأتي بعده حزب «يمينا» بقيادة نفتالي بينيت ويصل إلى 22 مقعدًا، وهكذا صار التنافس بين هذين الحزبين، والنتيجة ستكون وفي كل الأحوال، فوزا أكيدا لليمين، وبنزعة عدوانية أشدّ شراسة هذه المرّة. يريد نتنياهو أن تجري الانتخابات في يوليو/تموز المقبل، آملًا في أنه سيكون قد فرغ من السيطرة على الازمة الاقتصادية، وعلى الأزمة الصحية، مع إمكانية قوية أن يكون هناك تطعيم قبلها. وتشمل خطّة نتنياهو الحصول على المزيد من التطبيع مع دول عربية إضافية ترفع رصيده في المجتمع الإسرائيلي، كمن همّش القضية الفلسطينية وحقّق نصرًا سلميًا على العرب وفرض شروط «السلام مقابل السلام» التي صار اسمها عقيدة نتنياهو.
لا أحد يصدّق أنّ نتنياهو سينفّذ اتفاق التناوب مع بيني غانتس في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وحتى غانتس نفسه اعترف، قبل أيّام، بأنّه لا يؤمن بأنّه سيكون رئيسًا للوزراء. وبعد الوصول إلى هذه القناعة وإصرار نتنياهو عدم تمرير ميزانية متفق عليها، ليبقي بيده إمكانية تبكير الانتخابات، ارتفعت في حزب «كحول لافان» أصوات قوية تدعو إلى فك الشراكة والذهاب الى انتخابات لقطع الطريق على نتنياهو لتعيين انتخابات في موعد مريح له. تشير كل الدلائل إلى أن إسرائيل في طريقها الى انتخابات رابعة، وقد شرع نتنياهو بحملته الانتخابية، ويسعى من خلالها إضعاف حليفه وخصمه نفتالي بينيت، حتى لا يكون في إمكانه تشكيل حكومة بديلة، أو فرض شروط صعبة مثل التناوب على كرسي رئاسة الوزراء. ليست إمكانية إقامة حكومة برئاسة بينيت بالسيناريو المستحيل، خاصة أن قيادات حزب «يش عتيد» وحزب «كحول لافان» وحزب ليبرمان مستعدة من حيث المبدأ للتحالف معه ضد نتنياهو «المكروه» إذا قبل هو بذلك.
موسم الانتخابات في إسرائيل هو موسم إقلاع الطائرات الحربية الإسرائيلية للقيام بغارات جوية لأهداف عسكرية من جهة، ولغايات انتخابية من جهة أخرى. وليس من المستبعد أن نرى في الأشهر المقبلة تصعيدًا في تنفيذ مشاريع عدوانية إسرائيلية ضد إيران ولبنان وسوريا وفلسطين، وربما عمليات أخرى بالتنسيق مع الشركاء العرب «الجدد» والقدامى. ولعلّ من أهم هذه المشاريع هو عملية عسكرية واسعة في قطاع غزّة تهدف إلى فرض اتفاق «نزع قطاع غزّة من السلاح» وقد جرى التحضير لمشروع «النزع» من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ونظيرتها الأمريكية، وإذا سنحت الفرصة لنتنياهو فسيقوم بذلك قبل الانتخابات، وقد حاول فعلًا قبل انتخابات سبتمبر/أيلول 2019، لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية لم تقبل بموعد التنفيذ حينها.
تتجه إسرائيل عمومًا إلى المزيد من التطرف وتسير نحو المزيد من التشدّد اليميني، والانتخابات المقبلة لن تغيّر الصورة. يجب عدم انتظار «الحدث» الإسرائيلي وصناعة «حدث» فلسطيني وعربي، رغم الصعوبات والتعقيدات والمعيقات، وهذا الحدث يكون بالوصول الى الوحدة الفلسطينية ويكون بإطلاق حراك شعبي قوي ضد الاحتلال، ويكون كذلك بالعمل الجاد العربي والفلسطيني لوقف مسلسل التطبيع، وحتى تعطيل اتفاق التطبيع السوداني، والقوى الحيّة لشعبنا السوداني قادرة على ذلك وعندها الأساس والتسويغات الكافية لهذا الفعل. لم يعد للشعب الفلسطيني ما يخسره سوى قيوده، ولم يعد عنده ما ينتظره سوى موعد مع معركة الحرية والكرامة. وهذه ليست شعارات، بل هي «الحدث الفلسطيني» الذي بدأ يختمر تحت السطح حاليًّا.
[email protected]