بادئ ذي بدء، إنّ قتل المدرس الفرنسي بهذه الطريقة البشعة جريمة لا تغتفر، ولا يمكن تبريرها، مثلما الإساءة إلى الرسول جريمة لا تغتفر، ولا يمكن تبريرها، لا سيما عندما تُبرر ويُدافع عنها، والتشجيع على استمرارها باسم الحرية والدفاع عن قيم الجمهورية من قبل الرئيس الفرنسي.
والمثير للاستغراب والريبة أن الإدانة لا تقتصر على مرتكب الجريمة، بل يدان الإسلام والمسلمون بشكل عام، بينما لا يتم الأمر نفسه إذا كان الجاني من ديانة أخرى. وهنا يصح قول بيكا هافيستو، وزير الخارجية الفنلندي: "لم أعد أفهم شيئًا، السخرية من الأسود عنصرية، والسخرية من اليهودي لا سامية، وحتى السخرية من النساء تمييز جنسي، أما السخرية من المسلم فحرية تعبير".
كما أنّه ليس مقبولًا عندما يرتكب شخص مسلم جريمة أو عملية إرهابية تلصق بالإسلام، بينما إذا قام يهودي أو مسيحي أو بوذي أو لا ديني بأبشع الجرائم العادية أو الإرهابية فلا تنسب إلى دينه أو معتقده أو اتباع ديانته، بل توضع في سياقها الطبيعي كعمل إجرامي من شخص يجب أن يحاكم ضمن القواعد المعمول بها.
وهناك من يدافع عن التمييز بين الأعمال الإجرامية والإرهابية بأن هناك جماعات دينية إسلامية متطرفة تشجع على الإرهاب باسم الدين، وكأنه لا توجد جماعات ومنظّمات يهودية أو مسيحية وبوذية بالآلاف في أميركا وأوروبا وعلى امتداد العالم تقوم بالأمر نفسه، وانتشرت هذه الجماعات في السنوات الأخيرة مع صعود الاتجاهات الشعبوية واليمينية والدينية المحافظة والمتطرفة، خصوصًا في أميركا، وبصورة أبشع بعد فوز ترامب اعتمادًا على الإنجيليين المتطرفين، كما انتشرت هذه الأفكار والجماعات في العديد من الدول بغض النظر عن دينها، فهي موجودة وبقوة في بلدان مسيحية وإسلامية وغيرهما.
وهنا، لا بد من البحث عن ينابيع وجذور الإجرام والإرهاب والعنف، وهي كثيرة ومتشعبة، ولا مجال للخوض فيها في هذا المقال؛ من أجل معالجتها وتجفيفها، وليس الاكتفاء بالتنصل من المسؤولية وإلقاء اللوم على دين معين، أو جماعة بعينها.
في هذا السياق، لا يفوتنا أن نشير إلى أن إسرائيل تمثل ذروة الإرهاب، وهو إرهاب الدولة، وهي أعلنت منذ تأسيسها بعد تشريد وطرد الشعب الفلسطيني بأنها دولة يهودية، وأقرت منذ عامين قانونًا يعتبر أنها دولة لليهود، نازعة هذا الحق عن أصحاب البلاد الأصليين. ورغم ذلك، تدلل إسرائيل، ويتم التعامل معها كدولة فوق القانون الدولي، ولا تحاسب على الجرائم والمجازر التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها، كما فعلت يوم السبت الماضي بقتل الشاب الفلسطيني عبد الرحيم صنوبر بدم بارد، وتستمر في الاحتلال والاعتقال والطرد والتهجير والجرائم بكل أنواعها، إضافة إلى التمييز العنصري والحصار والعقوبات الجماعية من دون رادع أو عقاب، بل تصوّر كدولة سلام، ومن حقها الدفاع عن نفسها، وأن تبقى متفوقة عسكريًا على كل الدول العربية مجتمعة.
إن الصراع في أساسه ليس دينيًا رغم أن الكثير من أطرافه، يرتدون أثوابًا دينية للتغطية على أهدافهم الحقيقية، وتبرير جرائمهم التي تستهدف تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية، وتمكنهم من زيادة نفوذهم وأدوارهم.
وفي هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم مرحلة انتقالية وحالة سيولة جراء تزايد علامات انهيار النظام العالمي القديم بعد فيروس كورونا وتداعياته، وتكاثر إرهاصات نشوء نظام عالمي جديد لم تتضح معالمه بعد بشكل واضح، تحاول الدول التحكم به، خصوصًا الولايات المتحدة، التي تزعمت العالم منفردة أكثر من عقدين، وتسعى للبقاء في مكانها كأقوى دولة في العالم. في المقابل، تحاول دول أخرى، أبرزها الصين أن تتقدم وتحتل مكانها إلى جانب الولايات المتحدة أو حتى التقدم عليها، وهذا الوضع زاد من حدة الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية.
في هذا السياق، نشهد، في الأعوام الأخيرة، صراعًا وتنافسًا حادًّا على الهيمنة والقيادة والنفوذ والأسواق، وعلى النفط والغاز، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، وزادها حدة موجة أو موجات "الربيع العربي" الناجمة عن حاجة البلدان العربية إلى التغيير، استجابة لمصالح وأحلام شعوبها، وخطفها بحكم التدخلات والمؤامرات الخارجية، التي تفاقمت في ظل وجود ثلاثة مشاريع تتنافس على السيطرة في المنطقة، في ظل غياب مشروع عربي، مشاريع إسرائيلية وإيرانية وتركية مع الاختلاف فيما بينها. فالمشروع الإسرائيلي يجسد مشروعًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا إحلاليًا.
ولا نستطيع أن نفهم إذكاء حرب الرسومات المسيئة للرسول بمعزل عن هذه الصراعات، وخصوصًا التنافس الفرنسي التركي في ملفات ومناطق عديدة، وعن مساعي ماكرون للحصول على الشعبية على حساب الإسلام والمسلمين في ظل انتشار وزيادة نفوذ اليمين المتطرف الفرنسي .
إنها حرب مصالح ونفوذ وأدوار تستخدم الدين، خصوصًا أن المسلمين صاروا رقمًا في أوروبا، ويؤثرون على الحياة السياسية وغيرها، وبدلًا من التمييز ضدهم، لماذا لا يتم التنافس بشكل حضاري وديمقراطي وفي إطار التعددية والمساواة والعدالة؟
وها هو ماكرون يظهر مرتبكًا في ظل حملة المقاطعة المتزايدة للبضائع والشركات الفرنسية ردًا على هذه العنصرية الحمقاء، مع أن هذه المقاطعة ليست كلها تنطلق من دوافع الحرص على الإسلام والمسلمين، بل هناك جماعات ودول تغذيها دفاعًا عن مصالحها وأدوارها، فمن مصلحة الإسلام والمسلمين معالجة هذا الأمر لمصلحة الجميع وليس إذكاء الفتنة. فمسؤولية الحاكم أن يحفظ الأمن والسلام والاستقرار، لا أن يصبّ النار على الفتن القائمة، وافتعال المزيد منها. فماكرون الذي انتقد تقريرًا لصحافي فرنسي لأنه يثير قضية حساسة، ويدل على عدم المسؤولية، لا يمارس نفس الأمر بالنسبة إلى الرسوم المسيئة للرسول.
على الغرب أن يدرك أنه لا يمكن أن يجذب ويمتص أصحاب الكفاءة والخبرة والمتميزين من العالم الثالث كله، ولا يدفع ضريبة ذلك الناجمة عن أنهم من حضارات وشعوب وأديان أخرى، فالمفترض بالديمقراطية أن تتسع لكل الآراء والمعتقدات الدينية واللادينية .
ومن المؤلم أن نرى قنوات عربية في ظل هرولة بعض البلدان نحو التطبيع والتتبيع والتحالف مع إسرائيل، تقوم بشيطنة الفلسطينيين وتركيا وإيران، وتوظّف حتى العنصرية المستعرة على خلفية قتل المعلم الفرنسي في هذا الاتجاه، من خلال تقديم إسرائيل كدولة طبيعية ودولة قوانين ومركز الاستقرار وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
إنها يجب أن تتحول إلى حرب بين التطرف والإرهاب والقمع والتمييز والاستغلال الطبقي والقومي والاستعمار القديم والجديد، واستخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، وبين شعوب العالم وقوى التقدم التي تريد الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية التي تحترم كل الآراء والعقائد والأديان، ولا تحاكم البشر وفق دينهم أو معتقداتهم، وإنما وفق الحقوق والواجبات التي تجسّد قواعد المواطنة المستندة إلى دساتير تعكس الأهداف والقيم العامة، والقواعد التي تحكم العلاقات داخل البلدان، وبينها وبين البلدان الأخرى.
ليس مقبولًا السخرية من أي دين أو معتقد أو شخص، مع حرية انتقاد كل الأديان والمعتقدات والأشخاص، لأن الدين لله والوطن للجميع، والاجتهاد في الدين فريضة، وحتى القرآن كما قال سيدنا علي بن أبي طالب "حمّال أوجه"، بمعنى أنه عرضة لتفسيرات متعددة، و"القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم له الرجال"، وعلى المسلمين أن يتصدّوا للأقلية والجماعات من بينهم التي تكفر الجميع وتدعو إلى العنف والقتل متذرعة بأنه جهاد ودفاع عن الإسلام، وهو مما تدعو إليه بريء.
[email protected]