نصف قرن من الزمن مرّ على رحيل جمال عبد الناصر عن عالمنا.. ربما تبدو عبارة عادية لأول وهلة.. لكن هذه العبارة صادمة وتعيدنا 50 عاما الى الوراء. إلى يوم الثامن والعشرين من سبتمبر الأسود عام 1970، إلى الليلة التي توقف فيها قلب زعيم العرب، رئيس الجمهورية العربية المتحدة عن الخفقان، بعدما نجح وبجهود جبارة ودون راحة كانت لازمة ومطلوبة منه.. نجح عبد الناصر بجمع رؤساء وملوك وأمراء الأمة العربية، وتمكن من إرغام الملك الأردني، حسين بن طلال على الحضور الى القاهرة، وإحضار القائد الفلسطيني ياسر عرفات سالما، والتوصل الى اتفاق لإيقاف النزيف العربي الفلسطيني - الأردني في عمان..
نصف قرن ممكن أن يراها الانسان فترة قصيرة مرت على وجه السرعة، حتى أن العرب لم ينسوا عبد الناصر بعد، ولم يعتادوا على مخاطبته بصيغة الغائب. ورغم نزوله عن الساحة السياسية إلا ان اسمه ما زال حاضرا من قبل خصومه وأعدائه قبل مؤيديه وأحبائه. ألم يشنوا أكبر حملة على الزعيم الرمز بعد أقل من عام على رحيله ما زالت مستمرة حتى اليوم، في محاولة بائسة، تعيسة، فاشلة لتشويه صورته وإبعاد الشعوب عن طريقه. لكن الحملة ارتدت الى نحورهم، حيث تصاعد حب عبد الناصر في قلوب الناس، حتى الذين احتفظوا به في قلوبهم ولم يجرؤوا على المجاهرة بحبه. نصف قرن وحملات كراهية وعداء وشتائم واسفاف دلت على نوعية القائمين بها، لم تمنع الشعوب العربية في مصر وتونس واليمن ولبنان وسوريا وبالطبع في فلسطين، وكل بقعة عربية من رفع صور الزعيم والقائد عند الضيق والظلم باحثين عن سند وحضن أمان. وشاهدنا صور عبد الناصر ترتفع في عواصم العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وفي روسيا وغيرها من الدول، وجاهر الرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز بكل جرأة وشجاعة وتحد للامبريالية الأمريكية أنه ناصري، كما حضر قائد تحرير جنوب أفريقيا ورئيسها فيما بعد، المناضل الكبير نلسون مانديلا إلى القاهرة ليزور ضريح جمال عبد الناصر، معلنا أن لقاءه بعبد الناصر تأخر ثلاثين عاما.
نصف قرن ممكن أن يراها الانسان كذلك فترة طويلة مرت بتثاقل وبطء. فترة شهدت الكثير من التراجعات والنكوص عن الطريق الذي عبده عبد الناصر، طريق الحرية والكرامة والحقوق، طريق الوحدة العربية والطريق التي تجمع جميع فئات وطبقات ومعتقدات الشعب تحت خيمة القومية العربية. طريق التحدي والتصدي للمؤامرات الاستعمارية ولأحلافها المعادية للنهضة العربية بدعم ومشاركة حكام الرجعية العربية. طريق الرأس المرفوع، والمساواة والعدل والرفض والفخر والتحرر والبناء والتأميم ومجانية التعليم والمساكن الشعبية والتصنيع والفن الجميل. نصف قرن شهد تراجع الأمة العربية وتخلي زعمائها عن قيم الكرامة والعزة التي زرعها عبد الناصر، وإحباط الشعوب التي وقعت تحت أنظمة الفساد والخنوع لا قوة لها، وحتى عندما تحركت في بعض البلدان انقضت على تحركاتها قوى خارجية وحرفت تلك الهبات عن طموحاتها، فعادت الجماهير تستنجد بعبد الناصر ترفع صوره، وتنتظر المخلص من جديد بعدما أيقنت يوم وداعه الأخير أنها "بعده حتشوف الذل".
نصف قرن مرت على رحيل عبد الناصر جسدا، لكنه حاضر بمواقفه، مبادئه، أعماله، إنجازاته، طريقه، سيرته. وقد أثبتت السنوات الخمسين الماضية أنّه لا نهوض للأمة العربية ولا تقدم ولا كرامة إلا بالسير على نهج وطريق عبد الناصر، التي أرساها خلال سنوات قليلة من قيادته للأمة العربية، طريق القومية والوحدة العربية، الاشتراكية والعدالة، التقدم والتطور، الفكر والثقافة. وعلى ضوء عجز الأحزاب للأسف وخيانة الحكام، يبقى الأمل في ولادة قائد جديد على شاكلة عبد الناصر.. لكن هذا لن يحصل في النصف قرن القريب. وإذا لم تقم حركة قومية ناصرية فعلية، سنشهد المزيد من التراجعات والخيبات تضرب الأمة العربية.
[email protected]