تَرَاجَعَ بنيامين نتنياهو عن وعده بالشروع في الضم قبل الانتخابات، بعد ضغوط أميركية ناجمة عن ردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية، كما ظهر في أعمال المقاومة الفلسطينية، والتحركات الشعبية، انعكاسًا لموقف الرفض الجماعي الفلسطيني للصفقة، وتجلى كذلك في اجتماعات الجامعة العربية والتعاون الإسلامي والاتحاد الأفريقي، وفي البيان الرافض للصفقة والموقع من 107 نواب أميركيين، وفي المواقف الصادرة عن مختلف بلدان العالم، خصوصًا الصين وروسيا وأوروبا، التي من المتوقع أن تترجم اليوم في اجتماع مجلس الأمن، بتصويت 14 أو 13 عضوًا ضد الصفقة/المؤامرة.
هذا مع العلم أن ردود الأفعال على رؤية ترامب لا تزال تتفاعل، ومرشحة للتصاعد بعد اتضاح مضمونها للمزيد من الدول والحركات والأفراد في أنها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ومغرقة بالتطرف، ولا تشكل خطة سلام، ولا تصلح أساسًا للتفاوض، ومصممة لكي يرفضها الفلسطينيون، وسيتم الشروع في تنفيذها رغم الرفض الفلسطيني.
مخاطر الرؤية كبيرة جدًا لدرجة أن العديد من الصهاينة، من اليمين واليسار، حذروا منها، ورفضوها، وطالبوا بعدم الإقدام على الضم أو أي إجراءات أحادية من دون عملية سياسية واشتراك الفلسطينيين، ليس حبًا بالفلسطينيين، بل لإدراكهم بأنها أكبر من طاقة إسرائيل على ابتلاعها، وستعود بعواقب وخيمة عليها.
ونحن بصدد تقييم إحباط الخطة الأميركية الإسرائيلية، علينا أن نتذكر أن الحركة الصهيونية وأداة تجسيدها إسرائيل تتعامل مع كل المبادرات والخطط المتعلقة بحل الصراع حتى المؤيدة لإسرائيل بشكل مراوغ ومتناقض، حيث توافق في البداية على الخطة أو المبادرة، أو توافق عليها كأساس للمفاوضات مع تسجيل ملاحظات جوهرية عليها، ثم تتصرف أثناء التطبيق، سواء بسبب تغيير حكومي أو من دونه، بحيث تستجيب للتفسير الإسرائيلي الذي يحوّلها إلى شيء مختلف وبعيد عن صورتها الأصلية.
هكذا حصل عندما وافقت الحركة الصهيونية على قرار التقسيم، إذ عملت على تجاوزه بحيث قامت إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، وضمت مناطق لم تكن مقررة لها في القرار تبلغ نسبتها حوالي 23%. وهكذا تعاملت مع القرار 242 الذي وافقت عليه، وادّعت أنه لا ينص على الانسحاب من الأراضي المحتلة، بل من أراضٍ محتلة، وكذلك مع اتفاق أوسلو الذي تعاملت معه وفق عبارة إسحاق رابين الشهيرة، التي قالها مبكرًا بعيد توقيع الاتفاق، بأنه "لا مواعيد مقدسة"، ولم تطبق 34 التزامًا منه، أهمها إعادة انتشار قوات الاحتلال وانسحابها من 90% من الأرض المحتلة قبل الشروع في المفاوضات النهائية، وعدم فتح ممر آمن حر ودائم بين الضفة والقطاع. وهكذا تعاملت أيضًا مع خارطة الطريق الدولية التي وافق عليها أرئيل شارون، ثم وضع عليها أربعة عشر تحفظًا أفرغتها تمامًا من مضمونها.
وهكذا ستفعل مع رؤية ترامب، رغم استجابتها للمطالب الجوهرية الإسرائيلية، كما ظهر من خلال حديث نتنياهو في البيت الأبيض بأن الخطة أساس للتفاوض، وحين خاطب شركاءه في الحكومة والمستوطنين المعترضين على إقامة دولة، وعلى بعض النقاط في رؤية ترامب، بأن الحكومة ليست ملزمة بإقرار الشق الخاص بإقامة دولة فلسطينية، وأنها لن ترى النور، لأن الشروط الموضوعة لن يتمكّن الفلسطينيون من تلبيتها حتى بعد السنوات الأربع المشار إليها، وأن القول الفصل بإقامة الدولة سيكون لإسرائيل.
حتى لو كان الاتفاق جيدًا، فتستطيع إسرائيل بحكم اختلال موازين القوى لصالحها وإيمانها بحق القوة وشريعة الغاب، واتجاهها المتزايد نحو التطرّف، تحويله إلى اتفاق سيئ. فكيف والخطة الأميركية الإسرائيلية سيئة جدًا، وفي ظل تحكم اليمين المتطرف في أميركا وإسرائيل، ما سيجعل الخطة السيئة جدًا عند التطبيق أسوأ مما هي عليه بكثير.
الرد الفلسطيني
رغم الرفض الفلسطيني السياسي القوي للصفقة المسمومة، الذي أخذ شكلًا حادًا كما ظهر في رفض الرد على مكالمة دونالد ترامب، وعدم الموافقة على استلام نسخة منها، وعدم الموافقة على لقاء أو إرسال الرد الفلسطيني عليها للإدارة الأميركية، إلا أن الرد ظهر في الشكل والمضمون مرتبكًا وضعيفًا ومتناقضًا مع نفسه.
وهذا يظهر من خلال الحديث عن وقف العلاقات والالتزامات مع إسرائيل، بما فيها الأمنية، تارة، وتغيير وظائف السلطة تارة أخرى، وتسليم مفاتيحها للاحتلال تارة ثالثة. والحديث عن أن هذا أو ذاك سيحدث بعد الضم من دون توضيح هل سيكون ذلك فورًا أو بعد حين، أي بعد ضم الأغوار والمستعمرات الاستيطانية كلها أو جزء منها. وإذا كانت النية متوفرة، فلماذا لا يتم بناء البديل، سياسيًا ومؤسسيًا في السلطة والمنظمة، القادر على مواجهة الوضع الجديد بعد حل السلطة أو انهيارها أو إعادة النظر في هيكليتها ووظائفها؟
كما يظهر الارتباك في أن خطابات الرئيس لا تزال تراهن على عملية السلام الميتة وعلى إمكانية إحيائها، ومليئة بالحنين إلى أوسلو، وتصوّر أن الاتفاق مع إسرائيل ممكن، كما حصل في المفاوضات السرية في أوسلو التي تمت من وراء الإدارة الأميركية، وكأن العدو أميركا، لذلك تتركز الإدانات والتصعيد – في الغالب - على الإدارة الأميركية، في ظل إيحاء بإمكانية تحييد إسرائيل، وتبرير ذلك بذريعة عدم القدرة على فتح جبهتين مع أميركا وإسرائيل في وقت واحد، وكأنّ هناك جبهات، وليست جبهة واحدة، وهي إسرائيل المحتلة الاستيطانية العنصرية، لا سيما بعد انتقال الولايات المتحدة في عهد ترامب من تأييد إسرائيل إلى الشراكة الكاملة مع اليمين المتطرف الإسرائيلي، وما يجسده من الاحتلال والعنصرية والاستيطان والعدوان.
في الحقيقة، يُظهر سلوك القيادة الفلسطينية والقوى والنخب – حتى الآن - بأنها في حالة من العجز والانتظار وفقدان القدرة على المبادرة، وتخشى من الإقدام على خطوة تؤدي إلى مجابهة غير مستعدة لها، ولا تريد أن تستعد لها.
ويظهر عدم الجدية كذلك في الطريقة التي تم التعامل بها مع الوحدة، فبعد اللقاء القيادي الرمزي في مقر المقاطعة برام الله، وما أقره من إرسال وفد إلى قطاع غزة تمهيدًا لزيارة الرئيس، عدنا إلى المماطلة والتسويف، ما يدل على أنه "عادت ريما لعادتها القديمة"، وتجري إعادة إنتاج الطريقة السابقة التي أدخلت حوارات واتفاقات الوحدة في دوامة لم تخرج منها.
كما لم ترتق ردود الفعل الفلسطينية الشعبية إلى مستوى الخطر الذي تمثله الصفقة، إذ لاحظنا أن المظاهرات في معظمها كانت قليلة العدد، وأن الشعب لا يلبي نداء الرئيس والقيادة له للتحرك، فالشعب لا يتحرك عبر "روموت كونترول"، ولا يرى جدية في موقف القيادة ولا القوى، فلا رؤية ولا إستراتيجية جديدة تقطع الحبل للسري مع أوهام التوصل إلى الحقوق عن طريق إستراتيجيات أحادية، وخصوصًا عن طريق المفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة.
توفر رؤية ترامب فرصة جديدة يمكن أن تكون الأخيرة لاستكشاف إمكانية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على أسس وطنية وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية، ولكن هذا يحتاج إلى:
أولًا: لقاء وطني بمشاركة الرئيس، والأمناء العامين للفصائل، وممثلين عن مختلف التجمعات والقطاعات للاتفاق على رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة وشراكة حقيقية، قادرة على إحباط رؤية ترامب، ومنع أن تكون أساسًا للمفاوضات أو مرجعية جديدة أو إحدى المرجعيات في المرحلة القادمة.
ثانيًا: توحيد المؤسسات في السلطة بعد إعادة هيكلتها، بما فيها الأجهزة الأمنية، وبما يتضمن تغيير شكلها وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، بحيث تكون أداة لخدمة الشعب والبرنامج الوطني، وذراع منظمة التحرير بعد إحيائها عبر إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتعيد الاعتبار لكونها الكيان الوطني والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني قولًا وفعلًا.
ثالثًا: تشكيل جبهة وطنية عربية إسلامية تحررية دولية من المناصرين للقضية والحقوق الفلسطينية، تعمل على إسقاط صفقة ترامب، وتساعد الفلسطينيين على الكفاح لتغيير موازين القوى، بما يسمح بتحقيق أهدافهم وحقوقهم وطموحاتهم الوطنية.
[email protected]