بإنتظار إبنتي في محطّة القطار في حيفا بعد يوم عمل ممتع وطويل...
ما أن وصلت وقبل أن تستقل السيارة، حتى سارعت لقربها فتاة بدا على ملامحها أنها أجنبية تستفسر عن كيفية إيجاد سيارة أجرة توصلها الفندق. فما كان منّا إلا أن عرضنا على السائحة وصديقتها توصيلة مجانيّة كنوع من المساعدة واحترام الضيف.
قبل النزول من السيارة تناولت إحدى السائحتين علبة شوكولاطة أجنبية الصّنع وناولتني إيّاها كعربون شكر وتقدير على المساعدة، وطبعاً فقد تم تبادل أرقام الهواتف لدعوتهما على العشاء على مائدتنا.
- هل أنتما نباتيتان؟ هل من نوع معيّن لا تحبّانه؟ فنحن نرغب بتحضير بعض المأكولات التقليدية لتتذوّقانها.
- كلا، نحن نأكل كل شيء لا مشكلة لدينا أبداً، يسرنا أن نتذوّق بعضاً من الطعام اليهودي التقليدي في بيتكم.
- نحن لسنا يهوداً، بل عرباً
- حقاً، سعيدة بسماع ذلك، نحن بدورنا سنحضر لكم معنا نوعاً من المأكولات البولنديّة لتتذوقوه ونتناوله معاً.
- شكرا، يسرنا ذلك نحن أيضاً، هل لا زلتما في نفس الفندق؟ لا داعي لتستقلا سيارة أجرة، نحضر لإصطحابكما.
- حقاً؟ جميل منكم، لكننا إنتقلنا لشقة تقع في شارع... رقم 85
- يا للصدفة الغريبة! فنحن جيران، نسكن في نفس الشارع رقم 79، لا يفصل بيننا سوى عمارة واحدة وموقف سيارات.
وإنتهت المحادثة على أمل اللقاء على مائدة العشاء في اليوم التالي.
كالمتوقّع من عائلة عربية إعتادت على مدى سنوات إستضافة ضيوف كثر من عدة دول أجنبية، كانت المائدة عامرة بأطيب المأكولات العربيّة بدءً من المجدرة والمقلوبة، المغربيّة والمحمّر...إنتهاءً بالمناقيش والفطائر، التبوله والفتوش وما إلى ذلك من مقبلات ومكابيس، وأمّا الحمّص فقد أبى إلا أن يتوسّط المائدة معلناّ أصوله العربيّة ضاحداً محاولات نسبه لشعوب أخرى نسبت أشياء كثيرة أكثر أهمية، أما البولنديتان فقد حملتا صحناً من المعجنات البولندية المحشو بالجبن والبطاطا، صحناً من حلوى العجين والتفاح وأيضاً سلطة مايونيز بالخضار على طريقة بلدهن، ولم تنسيا أن تحضرا قنينة نبيذ أبيض كما هي العادة. غصّت المائدة التي تحلّق الجميع حولها تجمعهم الأحاديث اللطيفة والنّكات التي أضفت البهجة على الموجودين.
طبيبتان تتخصّصان في الأمراض النّسائية وصلن إلى البلاد في بعثة تبادل خبرات بين مستشفى رمبام في حيفا وأحد مستشفيات بولندا. طبعاً هذه المعلومة لم تمر مر الكرام، فأنا أعلم تماماً أن بولندا لا زالت تدفع تعويضات مادية، معنوية، مهنية وغيرها لإسرائيل كتكفير عن وجود معسكر الإبادة النازي على أراضيها، وبالتالي لا بد لي من إيصال رسالتي للطبيبتين كما دأبت على مر سنوات مع اليهود، الأجانب والعرب في الدول العربية.
عبّرت الضّيفتان عن إندهاشهما من تطوّر مستشفى رمبام في مجال الطب والتكنولوجيا وأنها تتفوّق بدرجات عمّا إعتادا عليه هناك، كما عبّرتا عن نفس الإندهاش من أمور تبدو لنا نحن عادية جداً، قالت إحداهن إنّ المصعد في رمبام لا يتأخر في الوصول حين تطلبه، كما أنه يوصلك مباشرة للطابق الذي تريد وبسرعة، تحدّثتا عن إعجابهما بالنظام، الترتيب والنظافة الموجودة في المستشفى بكل أقسامه وأجزائه –فحتى الدرج بدا نظيفاً دائماً- ولم تنسيا التّطرق للطافة الناس وإستعدادهم التّام غير المشروط للمساعدة.
وهنا إنتقل الحديث عن زيارتهن الجميلة والمؤثرة للقدس والناصرة وبيت ناحوم خاصة أنها الأولى لأماكن سمعن عنها وقرأن في الكتاب المقدّس والتاريخ إضافة لنشرات الأخبار.
تشعّب حديث الزيارة الأولى ليشمل ما أراد كل مشاركته عن حياته، عمله، مسارات تعليمه وأيضاً عن أفراد أسرته، بلدته وما إلى ذلك من أحاديث إجتماعية لطيفة بعيدة عن أيّ أمور أخرى تمّ تأجيلها لحين زيارة عيلبون وتناول الغذاء في بيت العائلة اّخر الأسبوع.
كانت للجولة في عيلبون تأثير كبير على صديقتي البولنديتين خاصة أنّها ترافقت مع شرح وافٍ من والدي العزيز الذي عايش الفترة والأحداث، فكان صمتهما سيد الموقف والدموع ضيفته، فما سمعتاه كان أقوى مما توقعتا، في حين لم تتمكّنا من التعليق بأية كلمة لأسباب أفهما جيداً.
بعد هذه الجولة الصّعبة كان لا بدّ وأن أخفّف عنهما وطأة التاريخ، إصطحبتهما في جولة ممتعة في جبال الجليل وسهوله أستقرينا في نهايتها على شاطيء بحيرة طبريا حيث سار السيّد المسيح عليه السّلام على مياهها، ملاحظة قالتها إحداهن كمحاولة على ما يبدو للدخول في حلقة أخرى تريح أعصابها أكثر.
وكالمتوقع لم تغادر البولنديتين بيتنا قبل أن تحظيا بكم من الهدايا الرمزية منها واللا رمزية أيضاً.
مر على هذه الزيارة عدة أشهر ولا زلنا على تواصل إلكتروني مع صديقتينا الطبيبتين البولنديتين ولا زال إهتمامهما بما جرى عام النكبة والتهجير يزداد يوماً بعد يوم لأنني وأسرتي لا نتنازل عن أبسط حقوقنا وهو إخبار الحقيقة للقاصي والدّاني.
[email protected]