إن اول ما يتبادر لأذهاننا من مصطلح الغزو انه غزو عسكري , نعم فالغزو العسكري قائم ولكن يمكن لآثاره أن تزول في كثير من الحالات إما بالمقاومة أو بمعاهدات واتفاقيات أو غيره , لكن المصطلح الآخر للغزو وهو الغزو الفكري الذي من الصعب على آثاره أن تزول بسهولة بل إنها تستمر لفترات طويلة لأن طبيعة الغزو بطيئة وتحتاج إلى الوقت من أجل الترسيخ ما يشكل خطورة كبيرة لأن العدو من خلاله يستهدف العقول في طريقه لاستهداف السلوك بشكل خاص والعقيدة والفكر والأخلاق بشكل عام.
اذًا هو تدمير البنية التحتية لسلوكيات الأفراد والجماعات من أجل الإدمان على استهانة العقيدة الفكرية الأصيلة لتحل مكانها الإباحية والانحراف والمخدرات والثقافات المستوردة , لذلك نرى أن "فقهاء" الغزو الفكري يستهدفون على الأخص الشباب الذين يُعتبرون عماد الأمم , فالشباب إما أن يكونوا سببًا في تقدم شعوبهم وإما سببًا في تأخرها لأنهم الأكثر عرضة والاكثر تقبلًا لكل جديد أو برّاق أو " مبدع" لان النضوج الفكري والعقلي لدى النشأ الصاعد والمراحل الاولى من الشباب يكون غير مكتمل إلى الحد الذي يجعلهم محصنين ضد أي مغريات أو بهرجات.
الغزو الفكري ليس وليد القرن العشرين وليس حديثًا فقد بدأت بوادره اعتبارا من القرون الوسطى وتحديدًا مع انطلاقة الحملات الصليبية على بلاد المشرق العربي المسلم , وقد انتج هذا الغزو في حلته آنذاك ما يُسمى دراسات الاستشراق والمستشرقين بهدف دراسة وتشخيص حالة ووضع المشرق العربي من أجل رسم الخطط والأساليب لإفساد عقيدة المسلمين وزرع أسافين الفتنة مستعينين بعد ذلك بِ كتاب وأدباء عرب محسوبين على الحضارة العربية والإسلامية لتمرير مخططاتهم الحاقدة .
فها هو لويس التاسع يوصي ويطلب من أوروبا والعالم الصليبي التخلي عن الغزو العسكري لبلاد المشرق لأن تمسك المسلمين بدينهم وقيمهم يجعلهم أشد ضراوة في مواجهة هذا الغزو لأن الدين أصلًا يحث على الجهاد , فالترويض حسب رأيه ينزع المسلمين من دينهم وعقيدتهم وهذا لا يكون إلا بالمكر والخداع والتزييف وغزو الثقافات.
ففي عالمنا الحاضر وتحديدًا بعد الثورة الصناعية جاء الغزو الفكري بعدة وجوه : الغزو الفكري الصليبي , الشيوعي الإلحادي والصهيوني حيث كانت أساليبها متعددة إلا أن أهدافها واحدة وهي سلخ بلاد المشرق والمسلمين عن دينهم وقيمهم , ولأننا هنا في الداخل الفلسطيني نعيش في قلب الحوت ولأن أرضنا سُلبت وتم تهجير شعبنا وتدمير قرانا ومقدساتنا فإن المشروع الصهيوني من أجل الحفاظ على كيانه فكان لا بد له من التفنن والإبداع في أساليب الغزو الفكري لأبنائنا ظانًا أنه سيحقق مقولة بن غوريون بأن كبارهم سيموتون وأن صغارهم سينسون , فكانت أهم الأدوات لديه هو مشروع التربية والتعليم حيث أنه من خلاله يتم بث سموم التزييف والتحريف في المناهج الدراسية خاصة في مواضيع التاريخ والجغرافيا والدين الإسلامي والمدنيات حرصا ممن صاغ هذا المنهاج على التأكيد على الرواية الصهيونية المزورة على حساب الرواية الفلسطينية الحقيقية.
ومن الأساليب الأخرى الترويج للخدمة المدنية كمدخل لنزع الانتماء للأوطان والدين والترويج أكثر وأكثر للفعاليات اللامنهجية المدرسية البعيدة كل البعد عن حب الوطن والتي تصب أصلًا في تكريس تبني قانون القومية بأن المؤسسة الاسرائيلية هي دولة الديمقراطية ودولة الشعب اليهودي , بل الأنكى من ذلك أنها تدخل بيوتنا لهدم قيمنا بواسطة إنشاء ودعم الجمعيات النسوية التي تطالب "بتحرير المرأة" وكأن المرأة وبناتنا موجودات داخل قفص من العبودية في بيوتهن هادفة الى إفساد النساء والبنات وخلق حالات التمرد على القيم والدين من أجل زعزعة الاستقرار الأسري الذي يُعتبر اللبنة الأولى في البناء , وقامت بتكثيف الترويج الإعلامي الذي يصف الإسلام والقيم العربية بالرجعية وأن الحضارة الحقيقية بزعمهم هي العولمة "والتطور الحضاري" مستعينة لهذا الغرض بالفضائيات العالمية والمحلية والشبكات العنكبوتية علمًا منها أنها ملازمة لبيوتنا وغرفنا هادفة إلى تمزيق الأسرة والشباب من خلال برامجها الهابطة التي تروج للرذيلة حتى تصبح أمرًا اعتياديًا في حياة الأفراد , وغيرها وغيرها الكثير من الوسائل التي تشكك بالهوية والانتماء .
فإذا كان هذا حال المؤسسة الإسرائيلية في غزونا فكريًا فهل يمكننا أن نسلمهم رقابنا ليوغلوا أكثر في تشويه عقيدتنا وفكرنا وهويتنا؟! فالمسؤولية كل المسؤولية تقع علينا وحدنا من خلال التوجيه البيتي الصحيح لتاريخنا وقيمنا والتشديد عليها فإن الوالدين الحكيمين لا يريدان التفريط في رأس مالهما وهم أبناؤهم.
للسلطات المحلية والمدارس دور في التوجيه وبناء الأطر والبرامج النافعة التي تحافظ على أبناء المجتمع من الانحراف والانزلاق وسد الفراغ المستشري عندهم ،وكذلك لجان الاباء لها دور في المراقبة الدائمة للمناهج الدراسية وعلى الأخص اللامنهجية منها والتي تنخر عميقًا في عظام أولادنا.
ويجب أن يكون للأحزاب والحركات الوطنية والمنظمات الأهلية دور في التوجيه الصحيح للمحافظة على ثوابت شعبنا وقيمنا، وبلا شك لدينا القدرات والإمكانات في مواجهة غول هذا الغزو شريطة أن يأخذ كلٌ منا دوره ومسؤوليته تجاه شبابنا ومجتمعنا.
[email protected]