ذكرت في نهاية القسم الأول من المقال، عناوين المقالات السبع التي ضمها كتاب "الناصر"، للدكتور أسعد السحمراني من لبنان، في القسم الثاني، سأتوقف عند أهم تلك المقالات بتوسع بسيط.
المقالة الأولى تناولت حياة عبد الناصر "مسيرة ثورة وعطاء" وتنقلت من عبد الناصر الطالب الثانوي فالعسكري فمؤسس حركة الضباط الأحرار وثم رئيسا لمصر وزعيما عربيا ودوليا. والمقالة توجز لنا مسيرة حياة الزعيم كما عرفناها من مصادر مختلفة سابقا، وهي تشكل مرجعا لحياة الزعيم بشكل سلس وترتيبي ومختصر لجمهور الشباب الذي لم يعرف ولم يعش زمن عبد الناصر.
أما المقالة الثانية تناولت مفهوم الثورة عند جمال عبد الناصر وضرورتها. والمقالة الرابعة عالجت "الوطنية من جمال عبد الناصر الى الراهن العربي" والخامسة توقفت عند "عبد الناصر وفلسطين".
المقالة السادسة "الشباب في وثائق ثورة 23 يوليو الناصرية"، يؤكد في مطلعها المؤلف على أن ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر أولت اهتماما خاصا للشباب، كيف لا وعبد الناصر عندما فجر وقاد الثورة كان في سنوات الشباب، وقال في "الميثاق" عام 1962 " إنّ الشباب عنصر حيويّ في معدن هذا الشعب الأصيل، يكفل له مجتمعنا الجديد حقّه في العلم والثقافة والمعرفة لتنمية ملكاته، وإبراز قدراته، ويتيح له فرص العمل للمشاركة في بناء المجتمع". (ص 192) كما ان الميثاق ضمن للشباب حقوقهم وخاصة في العلم والعمل، ولأن للدين في موروثنا وشرقنا أهمية كبرى فقد أكد الكاتب على التربية الدينية المعتدلة للشباب وكما ورد مفهومها في الميثاق القائم على أن " جوهر رسالات السماء لا يتصادم مع حقائق الحياة، وانما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات الرجعية أن تستغلّ الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم". (ص 198) وهذا ما حصل في عالمنا العربي للأسف، حيث انتشرت الفتاوى ذات اليمين وذات الشمال، دون حسيب أو رقيب، وأي مدع يعين نفسه متحدثا باسم الخالق والأنبياء، دون أي رادع أخلاقي أو ديني، وكل ذلك لتمرير مخططات خبيثة لا تريد الخير لنا ولأمتنا، وهذا يفسر ما يتعرض له شبابنا في السنوات الأخيرة من تهميش وتيئيس في القضايا العامة، كي يتم تنفيذ المخططات، وهذا ما كان مدركا له القائد والمعلم جمال عبد الناصر، وتجلت حكمته وعمق نظره في جلسة حوارية له عام 1967 مع الفيلسوفين الفرنسيين في ذلك الزمن، جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، حيث أجاب عن سؤال لسارتر لهم عما يشغل بال الزعيم، فعبر له عبد الناصر عن قلقه من المحاولات الجارية لاخراج الشباب من الحياة السياسية والهائهم بقشور الحياة وهذا " ما يجعلني أقلق لأنّ الأجيال القديمة تحجب أجيالا جديدة عن المشاركة، وهذه مشكلة، فاذا حجبنا الشباب عن العمل السياسي تتوقف حيوية الأنظمة، ويزداد الاعتماد على عناصر القوة في المجتمع مثل الجيش مثلا، وهذه ليست وصفة مضمونة لحماية التطور". (ص 211) وهنا يوضح لنا المؤلف بشكل موسع ودقيق نظرة عبد الناصر للشباب ودورهم في قضايا الأمة، ويأتي على ما يمر على الشباب في الفترة الراهنة، وهي مقالة هامة وركيزة لعمل الشباب القومي في قضاياهم الأساسية، قضايا أمتهم والتفاعل معها والانخراط بها.
والمقالة الثالثة تمحورت حول "الدين في فكر جمال عبد الناصر ومواقفه"، هذا الموقف الذي يتعرض لتشويه مزمن من قبل الاخوان المسلمين في مصر وأتباعهم في الخارج، من منطلق الحقد الدفين والكراهية العمياء لزعيم عربي قومي دون وجه حق، ومن هنا أهمية الحديث عن هذا الجانب وإبراز وتأكيد رؤية عبد الناصر ومواقفه الوطنية والانسانية المبدئية في هذا الجانب التي كان يؤكد عليها في أحاديثه وخطبه الى جانب ما ورد في "الميثاق"، حيث أعلن في وقت مبكر أن لا مكان لتجار الطائفية بيننا، في خطاب له في دمشق عام 1960 وقال فيه "وهذا الشعب كله استشهد منه المسلم واستشهد منه المسيحي، وسفك الدم المسلم والدم المسيحي، بل سُفك الدم العربي". (ص 98). كما نادى بحرية العقيدة الدينية وهذا يتطابق مع ما جاء في القرآن الكريم خاصة وأن " رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الانسان وسعادته". (ص 100). وحارب عبد الناصر التعصب الديني الذي يحجب التطور والصفاء الذهني، ويقود السائر فيه الى التطرف وكراهية الآخر من ناحية والى الجهل والتخلف من ناحية أخرى، وهذا يفسر عدم وجود متعصبين دينيين في مصر أيام عبد الناصر، لأنه لم تكن إمكانية لوجودهم في عصر المد القومي العظيم الذي جمع العرب من كل الأديان والمواهب تحت خيمة العروبة. ولعب الأزهر الشريف دورا إيجابيا في تلك الفترة الى جانب الكنيسة القبطية التي دعمها عبد الناصر ماديا ومعنويا، ويستذكر الخطاب التاريخي لجمال عبد الناصر من على منبر الأزهر خلال العدوان الاستعماري على مصر عام 1956، وأورد المؤلف في هذا الفصل عدة نماذج واقعية عكست مواقف ورؤية عبد الناصر في العيش المشترك، وخاصة بين جناحي العروبة الاسلامي والمسيحي، اللذين حلقا معا في سماء العروبة تحت راية القومية في زمن عبد الناصر وتوجيهاته.
ان أهمية كتاب "الناصر" أنه يأتي بعد نصف قرن على رحيل رائد القومية العربية الحديثة، جمال عبد الناصر، وبعد قرن على ميلاده. ليضع بين أيدي جيل الشباب مادة حول زعيم وقائد عربي لم يمن علينا التاريخ والقدر بمثله على مدار مئات الأعوام، قائد أعطى عمره لأمته، خدمها بإخلاص وتفان، كان على استعداد لأن يضحي بحياته ومعه رفاقه من أجل مصر والوطن العربي، وفعلا فقد ضحى بحياته أخيرا في سبيل انقاذ الشعب الفلسطيني من مجازر بشعة تعرض لها، وفي سبيل لم شمل العرب. وبعد كل ما قدمه وبذله نجد أنه تعرض ويتعرض حتى اليوم لأشرس حملات التحريض والتشويه والتي يشارك فيها للأسف، أبناء وأحفاد من خدمهم عبد الناصر وجعلهم بشرا في عيون العالم لهم كرامتهم ومكانتهم في العالم. كذلك يأتي الكتاب لجيل أيضا ابتعد عن القضايا العامة وترك الهموم القومية، وانشغل بذاته وملذاته وسار مع التطورات التكنولوجية على غير هدى أو يقين، فجاء الكتاب ليوجز لمن يرغب ويتوجب عليه العودة الى النشاط ورفع كرامة العرب، عشرات الكتب والدراسات والوثائق التي صدرت حول عبد الناصر وثورته ومبادئه، في كتاب واحد يشكل فاتحة ومقدمة سلسة ومريحة ومحفزا لمن يرغب في المزيد من المعرفة، ليذهب ويجدها في بطون الكتب والدراسات والوثائق.
لقد قام د. السحمراني بعمل جليل شكل دليلا للشباب العربي، للتعرف الى قائد مميز يمثل نموذجا نادرا في القيادة، دخل الى الحكم نظيفا وخرج نظيفا، لم يسرق ولم يبن القصور ولا امتلك السيارات والأراضي، ولم يترك ثروات وعقارات لأبنائه وعائلته، بل عاش ومات كأي مواطن مصري بسيط، وهكذا ترك عائلته تعيش كأي عائلة مصرية عادية، وتلك مزايا تكفي لأن تجعل من عبد الناصر أيقونة الشباب والأجيال العربية القادمة.
[email protected]