أعلنت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في تونس، بتاريخ 9/10/2019، النّتائج النهائيّة للانتخابات التّشريعيّة، إذ تصدّرتها حركة النّهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة بحصولها على 52 مقعدًا من أصل 217، في ثالث انتخابات برلمانية بعد ثورة العام 2011، وتلاها حزب قلب تونس بحصوله على 38 مقعدًا، في حين حصل حزب التّيار الديمقراطي على 22 مقعدًا، وائتلاف الكرامة على 21 مقعدًا، والحزب الدستوري الحُر على 17 مقعدًا، وحركة الشعب على 16 مقعدًا، وحركة تحيا تونس على 14 مقعدًا، وحركة مشروع تونس على أربعة مقاعد، إضافة إلى 33 مقعدًا موزعة على قوائم مستقلة أخرى.[1]
ما سيناريوهات تشكيل الحكومة المُقبلة في ضوء عدم حصول أيّ من الأحزاب على (نِصاب النّصف+1) الذي يمكّنه من تشكيل الحكومة منفردًا، أو حصول أيّها على أكثريّة مريحة، وما فُرص حركة النّهضة لتشكيل ائتلاف يمكّنها من توفير النّصاب القانوني لمنح الثّقة للحكومة في المدّة الدستوريّة التي ستُمنح لها، بالنّظر إلى تشتّت الكُتل النّيابيّة واختلاف مرجعياتها، وهل سينعكس فوز قيس سعيّد برئاسة الجمهوريّة على إمكانيّة تشكيلها للحكومة؟
الانتخابات التّشريعيّة في تونس
جرت الانتخابات التّشريعيّة التونسيّة لأوّل مرّة بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، في العام 2011، تحت عنوان المَجلس الوطني التأسيسي، وحصلت فيها حركة النّهضة على 89 مقعدًا، وشكّلت ما عرف بحكومة التّرويكا* برئاسة حمادي الجبالي، الذي قدّم استقالته إثر فشل الائتلاف وما تلاه من اغتيال الديمقراطي شكري بلعيد.[2] ثمّ جرت الانتخابات التشريعية الثانية بعد إقرار الدستور، في العام 2014، وحصلت فيها حركة نداء تونس على 86 مقعدًا، في حين تراجعت حركة النّهضة إلى 69 مقعدًا.[3]
تنافس أكثر من 1500 من أحزابٍ وائتلافاتٍ ومستقلين في الانتخابات التّشريعيّة الثانيّة منذ إقرار الدستور الجديد والثالثة منذ الثورة على 217 مقعدًا في البرلمان التّونسي، بعيد نحو ثلاثة أسابيع من الدّورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة المبكّرة جرّاء وفاة الرئيس التونسيّ الأسبق الباجي قايد السبسي بتاريخ 25/7/2019، وقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التي تصدّرتها حركة النّهضة حوالي 41%.[4]
تنصّ الفقرة الثانية من الفصل (89) من الدّستور التّونسي على تكليف المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بتشكيل الحكومة[5]، وبالنّظر إلى النّتائج المعلنة فإنه من المفترض أن يدعو رئيس الجمهورية القادم حركة النّهضة لتشكيل الحكومة.
كما ينص الدّستور على منح الائتلاف أو الحزب الحائز على الأكثريّة في مجلس نواب الشّعب مدّة شهر لتقديم تشكيلته للوزارة، وفي حال فشل يُمدد له شهر آخر، وعند تجاوز مدة الشهرين دون تمكّنه من تقديم تشكيلة حكوميّة يقوم رئيس الجمهورية بالتّشاور مع الأحزاب والائتلافات والكتل لاختيار الشّخص الأقدر لقيادة الحكومة، وفي حال فشل هذا الشّخص ييقوم رئيس الجمهورية بحل مجلس نواب الشّعب، والدعوة إلى انتخابات جديدة في مدة لا تجاوز تسعين يومًا.[6]
مواقف الأحزاب والائتلافات من تشكيل النّهضة للحكومة
أصدر المكتب التنفيذي لحركة النّهضة عشيّة إعلان نتائج الانتخابات بيانًا أكّد فيه: "أنّ تشكيل الحكومة المقبلة سيكون منطلقًا للحوار مع مختلف القوى السّياسية القابلة للعمل المُشترك وانفتاحها على كلّ المبادرات الجادّة التي تلتقي معها حول برنامجها الانتخابيّ أو جزءٍ منه".[7] وبيّن البيان عناوين البرنامج التي تلخصت في: "تعزيز المسار الديمقراطيّ الانتقاليّ، وتوفير مقوّمات العيش الكريم، والرّفع من المقدرة الشّرائيّة والتّشغيل، وتعزيز الأمن، ومقارعة الفقر والإرهاب والفساد والتّهريب".[8] كما قال راشد الغنوشي، رئيس الحركة في مقابلةٍ له: "لن نتحالف مع حزب نبيل القروي؛ لأنّ هذا التّحالف ضد خيارنا في اختيار قيس سعيّد".[9]
على الرغم من تصدر حركة النهضة لهذه الانتخابات إلا أنّ هناك مؤشرات تدل على تراجع شعبيّتها، أو أنّ التيار الإسلامي يتراجع في الوسط التونسي، إذْ حصلت في الانتخابات الأولى على 37% من عدد الأصوات، وفي الثانية على 28%، وفي الحاليّة على 23% فقط. ولعلّ ذلك يرجع إلى أسباب عدة، منها تراجع الإسلام السياسي المتمثّل في تراجع الإخوان المسلمين وفشلهم في مصر، وفشل النّهضة، التي شاركت في حكومتين ائتلافيتين، في تقديم حلول اجتماعيّة واقتصاديّة حقيقيّة، إضافة إلى تصاعد الحديث عن تنظيم النّهضة السّري وضلوعها في اغتيال شكري بلعيد.[10]
وعليه، يمكن تقسيم موقف الأحزاب إلى قسمين:
أولًا: الأحزاب التي أعلنت اصطفافها مع المعارضة، وتقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التّيار اللّيبرالي، ويضم:
حزب قلب تونس: أعلن حزب قلب تونس المتشكّل في أوائل العام 2019 برئاسة نبيل القروي، على لِسان أسامة الخليفي، عضو المكتب التنفيذي للحزب، أنّ حزبه لن يكون شريكًا حكوميًا لحركة النّهضة، وسيبقى في صفوف المعارضة.[11] وأكّد ذلك حاتم المليكي، الناطق باسم الحزب، إذ قال إنّ حزبه لن يُشارك في حكومة تُشكلها النّهضة، معتبرًا "أنّ منظومة الحكم الحاليّة وحركة النّهضة هي المسؤولة عن فشل السّياسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تتخبط فيها البلاد".[12] وقد أفادَ حزب قلب تونس من تأهل رئيسه القروي إلى الدّورة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة فجاء في المرتبة الثانية بعد قيس سعيّد.
حركة تحيا تونس: أكّد حامد المغربي، القيادي في حركة تحيا تونس، التي يرأسها رئيس الحكومة الحاليّة يوسف الشاهد، أنّ "الحركة اختارت عدم المشاركة في الحكومة المقبلة من مُنطلق احترام إرادة الشّعب الذي اختار عائلة سياسية أخرى، ولفسح المجال أمام الفائزين لممارسة الحكم وتنفيذ وعودهم".[13] وعلى الرغم من أنّ الحركة استفادت من تراجع حركة نداء تونس إلّا أنّ خسارة الشاهد في الدّورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة أثرت على الحركة في الانتخابات البرلمانيّة.
حركة مشروع تونس: قال محسن مرزوق، رئيس الحزب: "إنّ حركة مشروع تونس لم تتصدر المواقع الأولى في نتائج الانتخابات؛ لذلك فلن تكون معنية بالحكم. وستلعب دورها كمعارضة فاعلة، وستكون كل تحالفاتها مبنيّة على رفض التطرّف والخلط بين الدين والسّياسة وستنحاز للخط الوطنيّ الشعبيّ الديمقراطيّ".[14]
القسم الثاني: التيار اليساري، ويضم:
حزب التّيار الديمقراطي: قال محمّد عبّو، أمين عام الحزب: "إنّ حزبه سيكون معارضة جدية ومسؤولة".[15] وأكذ ذلك غازي الشواشي، القيادي في الحزب، بقوله: "نرفض التّحالف مع النّهضة؛ لأنّها فشلت طيلة ثماني سنوات من الحكم"[16]، وأشار: "حتى إن تجاوزت النّهضة الصعوبات وشكّلت حكومة، فستكون حكومة هشة تواجهها معارضة قوية"، معتبرًا أنّ الأفضل تشكيل حكومة إنقاذ وطني دون مشاركة الأحزاب لمدة سنتين".[17]
لكن مع تزايد الاتهامات الموجهة للتّيار بالتهرب من الحكم والمسؤولية، قدّم التيار وفق تصريح للشّوشاني، شروطًا للدخول مع النّهضة، تمثّلت في برنامج حكم واضح، وإسناد حقائب الداخليّة والعدل والإصلاح الإداري بصلاحيات واسعة.[18]
الحزب الدستوري الحر: أكّدت عبير موسى، رئيسة الحزب، الذي تأسس في العام 2013، تحت اسم الحركة الدّستوريّة، قبل أن يحمل الاسم الحالي في العام 2016، أنّ الحزب لن يتحالف مع حركة النّهضة وسيبقى في المعارضة".[19]
حركة الشّعب: قال زهير المغزاوي أمين عام حركة الشّعب، التي تعود جذورها إلى الناصريين، "نحن في وضعيّة معقدة نسبيًا بين حزب فاز بالأغلبيّة يتحمل فشل الحكومات المتعاقبة، وحزبٍ ثانٍ تحوم حوله شبهات وعدة نقاط استفهام"، مؤكدًا أنّ حزبه "سيكون في صف المعارضة".[20]
ثانيًا: الأحزاب التي أبدت استعدادها للمشاركة في الحكومة
أعلن ائتلاف الكرامة، الذي تشكّل حديثًا، والذي يرأسه سيف الدين مخلوف القريب من الإسلاميين، أنّه تلقى دعوة من حركة النّهضة للاجتماع من أجل الدخول في مشاورات تشكيل الحكومة، معلنًا عن موافقته على المشاركة في الحكومة، لكنّه أشار إلى أنّ الائتلاف لن يُشارك في الحكم إن لم يتم التّفاهم حول البرامج التي قدّمها لتحسين أوضاع التونسيين وإيجاد حلول لمشاكلهم.[21] ويعد المراقبون الائتلاف وجهة المنتخبين الإسلاميّة البديلة عن النّهضة.[22]
قراءة أوليّة لنتائج الانتخابات الرئاسيّة
جاءت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة صادِمة، إذ تأهل إلى الجولة الثانية الأكاديمي المستقل قيس سعيّد الذي حصل على 18.4% من عدد الأصوات، ونبيل القروي، الذي حصل على 15.6%، تلاهما عبد الفتاح مورو، مرشّح النّهضة، الذي حصل على 12.88%.[23] في حين فاز سعيّد في الجولة الثاني بنسبة حوالي 72% من أصوات الناخبين.[24]
يتضح من قراءة نتائج جولتي الانتخابات أنّ الشارع التونسي اتّجه نحو اختيار تيّارات وأشخاص من خارج المنظومة السياسيّة، سواءً أكان من بقايا نظام ابن علي، أو من الأحزاب التي شاركت في الحكومات السابقة ولم تحقّق التغيير المنشود كنداء تونس، إضافة إلى تراجع الديمقراطي والنّهضة، وصعود قلب تونس وائتلاف الكرامة.
السّيناريوهات المحتملة لتَشكيل الحكومة
السيناريو الأول: تشكيل حركة النّهضة للحكومة بدعم من ائتلاف الكرامة ومستقلين وأحزاب يساريّة
تعاني حركة النّهضة من مأزق حقيقي في تشكيل الحكومة، يحتّم عليها بذل أقصى جهد لتوسيع قاعدتها البرلمانيّة، خاصّة مع الإعلان الذي سبق الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة من ستّة أحزاب تشكّل مجتمعة 111 مقعدًا عدم نيّتها الدّخول مع النّهضة في ائتلاف، لكن من الواضح أنّ فوز قيس سعيّد سيزيد فرص النّهضة في تشكيل الحكومة، حيثُ دعمت النّهضة وائتلاف الكرامة والتّيار الديمقراطي وحركة مشروع تونس، قيس سعيّد في الجولة الثانية.
لذا، فإنّ احتمالات تشكيل النّهضة للحكومة مرهون بتوجّهات المستقلّين والكتل الأخرى الذين حصلوا على 33 مقعدًا، رغم أنّ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، صرّح أنّ "التصويت للمستقلين تصويتٌ للفوضى".[25] ومرهون كذلك بإمكانيّة التّحالف مع ائتلاف الكرامة (21 مقعدًا)، والتّوصل إلى تفاهمات مع التيار الديمقراطي( 22 مقعدًا)، عبر التّنازل عن بعض الوزارات السّياديّة.
السيناريو الثاني: توافق النهضة وقلب تونس وأحزاب أخرى على تشكيل الحكومة
من الواضح أنّ تشكيل حكومة ائتلافيّة بين النّهضة وقلب تونس على غرار حكومات سابقة تشكّلت بين نداء تونس والنّهضة يبدو صعبَ الحدوث، إذ أعلن الحزبان رفضهما الدّخول في ائتلاف، لكن إذا فشلت النّهضة في تشكيل ائتلاف حكومي، فسيكون لزامًا عليها فتح مشاورات شاقّة مع قلب تونس، ومع بعض التّيارات كتحيا تونس وحركة الشّعب؛ لعدم تحمّل مسؤوليّة فشل تشكيل الحكومة والذّهاب إلى سيناريوهات أسوأ.
لكن، هذا يبدو صعبًا في ظلّ التنافر الكبير في التّوجهات السياسيّة والأيديولوجيّة، التي تبدو أكبر من أن تقرّبها الضّرورات السّياسيّة والمصالح الآنيّة، إضافة إلى الخسارة الفادحة التي لحقت بالقروي في الدّورة الثانية للانتخابات.
السيناريو الثالث: تكليف شخصيّة متوافق عليها بتشكيل حكومة إنقاذ وطني
في حال فشلت حركة النّهضة في تشكيل الحكومة بعد تمديد المهلة الممنوحة دستوريًا لمرّة واحدة، يمكن لرئيس الجمهوريّة أن يقوم بالتّشاور مع الأحزاب والائتلافات والكتل لاختيار شَخص من خارج الحركة أو الكتل التي ستتحالف معها مبدئيًا، وتكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة، ما قد يعني خسارة سياسية لحركة النّهضة، وتراجع يضاف إلى سلسلة التّراجعات.
وهذا ما دعا إليه التّيار الديمقراطي بالذّهاب إلى حكومة إنقاذ وطني من دون أحزاب لمدّة عامين، وتبدو احتمالات هذا السّيناريو كبيرة في ضوء فسيفسائيّة البرلمان، وفي حال رفض بعض الأحزاب المطلق للحوار مع النّهضة، إضافة إلى أنّه ربّما يتناغم مع توجّهات الشارع التونسي في اختيار أشخاص من خارج منظومة الحكم.
السيناريو الرابع: إعادة الانتخابات.
في حال فشلت كافّة الجهود لتشكيل الحكومة، يقوم رئيس الجمهوريّة وحسب الفصل 89 من الدّستور بحلّ مجلس نواب الشّعب، والدّعوة إلى انتخابات جديدة في موعد أدناه خمسة وأربعون يومًا وأقصاه تسعون يومًا. لكن وبالنّظر إلى التّكلفة العالية ماديًا لإعادة الانتخابات فإنّ عددًا من الأحزاب، كالتّيار الديمقراطي وتحيا تونس، ستعيد النّظر في موقفها من الحوار مع النّهضة.
خاتمة
في كلّ الأحوال، سيكون على الأحزاب كافّة خوض مفاوَضات شاقّة، وبالتأكيد تقديم التنازلات بهدف تجاوز سيناريو إعادة الانتخابات الذي سيرهق تونس ماديًا؛ لذا فلن يتحمّل أي من الأحزاب المسؤوليّة المباشرة عن فشل تشكيل الحكومة وإعادة الانتخابات، وبالتالي من المرجّح تشكيل حكومة لا تحظى بقاعدة برلمانيّة قويّة، أو اللجوء إلى حكومة إنقاذ وطني.
[email protected]