نسمع أو نقرأ، من حين لآخر، عن بعض الدعوات التي تنعي على النقد الأدبي المحلي حظه العاثر، وافتقاره إلى نقاد مبدعين بيننا، والتي ما زالت تتكرر، إلى الآن، على الرغم من تباعد الفترات، وذلك من خلال بعض المقاربات الكتابية التي لا تلامس موضوعة النقد الأدبي المحلي، في معظمها، سوى ملامسة أفقية لا رأسية، كما يفترض، وذلك للأهمية الخاصة المتوخاة. وقد تكتفي تلك المقاربات من الموضوعة المطروحة على بساط البحث، بمنظور ما، بعرض الحال كما يقال، مع شيء من التعميم أو جلد الذات كما هو شائع أو متّبع، لينتهي الأمر بنا في نهاية المطاف إلى وضع "البيض" كله في سلة واحدة، ليس أكثر!
ربما لأن الكلام في هذا المجال، كما قدمنا، ليس بجديد، وإن كان، يقينًا، لا يصدر عن فراغ! فقد طرح هذا الكلام في السابق غير مرة، لكنه كان لا يلبث أن يعود للظهور من جديد، الأمر الذي يؤكد، كما يبدو، بأن الكلام فيه لم يُستكمل بعد. ولا أعتقد أن ثمة أحدًا يشكّك للحظة واحدة بجدية تلك المقاربات وأهميتها، ومنطلقاتها التي تعكس إخلاصًا وحرصًا حقيقيين واهتمامًا متزايدًا بلغتنا العربية، ومسيرة حركتنا الأدبية المحلية والنقدية منها تحديدًا. لكن، شتان من فرق شاسع وبعد واسع بين الأفكار وبين الممارسة الفعلية على أرض الواقع! علمًا بأن النوايا الحسنة وحدها لا تصنع نقدًا أدبيًا! على أن الإنسان السوي، في الأغلب الأعم، مفطور بطبعه على الطموح والتقدم والتطور، فهو يسعى إلى الأفضل ويصبو إلى الأمثل دائمًا!
يثبت واقع الحال، وهو أمر بات معروفًا للجميع تقريبًا، بأن الكتابة النقدية، في معظمها، هي كتابة للخاصة. ولهذا السبب ومن هذا المنطلق أشبهت حالها حال العرض والطلب! وعزوف القراء عن النقد، وعدم تقبله، وعدم تدريسه في مدارسنا، وفي معاهدنا العليا، والتربية للنقد ونشره، بالشكل المطلوب أو المرغوب بأقل تقدير، كذلك للصحف وملاحقها الأدبية دور، ولدور النشر دور، أو من الأسباب المجتمعة، على إقصاء النقد الأدبي وتراجعه ونكوصه إلى الهامش!
وفي الحق والحقيقة، لست منافحًا عن أحد ولا متهمًا أحدًا، لكن، من المعروف أنه ليس باستطاعة أو بمقدور أية حركة نقدية، أينما كانت، متابعة كل ما يصدر أو ينشر من كتابات إبداعية أو آثار أدبية. المطلوب إذًا التركيز على الكيف لا الكم! ثم أقول: لو كان التراجع في النقد الأدبي هو منقصتنا الوحيدة، أو الشوكة الوحيدة في خاصرة الحركة الأدبية المحلية، لقلنا ما علينا الكمال ليس من صفات البشر! قد يكون هنالك قصور أو تقصير ما، وأن هنالك مجالاً للتحسّن والتطور أكثر، فوضع النقد الأدبي لدينا ليس في أفضل تجلياته، هذا صحيح! لكن الأمر، كما كل شيء، هو نسبيٌ بالدرجة الأولى، وليست الصورة قاتمة إلى هذا الحد كما يحاول بعضهم أن يصوّرها. فعلى الرغم مما نمرّ به من تراجع، على المستويين الفردي والجمعي، لاسيما غياب دور السلطات العربية المحلية وتنصلها من مسؤولياتها، في دعم وتشجيع وتوجيه الحركة الأدبية المحلية، وبضمنها أيضًا النقد الأدبي. كذلك، ضيق ألإمكانات وصعوبة ألظروف التي نمر بها، وعدم ألتفرغ، فإنه توجد لدينا مجلتان محكّمتان أي مختصتان بالدراسات الأكاديمية هما: مجلة المجلّة الصادرة عن مجمع اللغة العربية في الناصرة، وأخرى هي مجلة المجمع الصادرة عن مجمع القاسمي في باقة الغربية. وللإشارة فقط، فإن المجمعين لا يقدمان دعمًا كافيًا للكتابة النقدية، ولا يضعان النقد الأدبي، كما يبدو، على سلّم أولوياتهما!
كذلك، توجد لدينا مجلات خاصة تصدر عن الكليات العربية، وهنالك مجلات أدبية ثقافية أخرى تُعنى بالكتابات الإبداعية من شعر وقصة ونقد أدبي ومراجعات وإضاءات أدبية، وما إلى ذلك، نذكر منها على سبيل المثال: مجلة مواقف/الناصرة، ومجلة الشروق/شفاعمرو، ومجلة الإصلاح/عرعرة، وغيرها. لدينا أقلام ناقدة رصينة وجادّة، تقوم بجهود جبارّة قد تفوق، أحيانًا، إمكاناتهم وطاقاتهم في مجالات الحياة وهمومها المتعددة، جنبًا إلى جنب العمل الأكاديمي وواجباته، والمشاركة في المؤتمرات المحلية والعالمية، والندوات الأدبية والثقافية المحلية، وفي تحرير المجلات الأدبية المحلية، وتأليف الكتب وإصدارها، والمتابعات الأدبية والثقافية والاجتماعية في ظل انهيار القيم والمثل، وتفشي العنف بنوعيه الكلامي والجسدي وتمزق النسيج ألاجتماعي، مثال ذلك: التصدي، من خلال الكتابة النقدية، لأية ظاهرة قد تنحرف عن جادة الصواب والحق والحقيقة: اجتماعية متشنجة، أو دينية متطرفة، أو تربوية مبيّتة!
لقد تسنى لكاتب هذه السطور، منذ فترة وجيزة، أن يطلق صرخة من خلال مقالة كان نشرها في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، عنوانها "تدريس القواعد العربية للمرحلتين الإعدادية والثانوية" أن ينقد قرار وزارة المعارف والتربية القاضي بإلغاء تدريس مادة القواعد العربية في مدارسنا، الإعدادية والثانوية، من خلال كتاب خاص، والاكتفاء بالنص فقط! لكن ولشديد الأسى والأسف معًا لم تلق كتابته الناقدة تلك أي اهتمام أو اعتبار أو رد فعل حتى من أحد، ولم تحرِّك ساكنًا واحدًا، على المستويين الفردي والجمعي على حد سواء، باستثناء بروفيسور سليمان جبران، للحقيقة والتاريخ، الذي توقّف عندها منوّهًا بأهمية التنبّه المبكّر على مدى خطورة تلك الخطوة، والإشارة إلى كتابتي تلك، وريادتها في قرع ناقوس الخطر، من خلال مقالته الموسومة: يا أصحاب العربيّة كونوا على حذر!
كذلك، لا يفوتني، في هذا السياق، أن أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، بعض النوادي والمراكز الثقافية التي تقوم بجهود جمة مشكورة في وسطنا العربي، والتي تهتم بشكل دائم، بتنظيم الندوات الأدبية والنقدية والنشاطات الثقافية، والتي يشارك بها كثيرون من الأدباء والمثقفين والأكاديميين والمهتمين، أذكر منها: النادي الثقافي-حيفا، والنادي الثقافي-طرعان، والمنتدى الثقافي/البادية-عسفيا، ومركز الحوارنة الثقافي-كفر قرع، ومركز محمود درويش-كفر ياسيف، ومكتبة "أبو سلمى"-الناصرة وغيرها. جميع تلك النوادي الثقافية، وكل واحدة منها على انفراد، يمكن أن تشكّل دفيئة حاضنة لنواة حقيقية في النقد الأدبي، ناهيك بما تؤديه لوسطنا العربي من خدمات جُلى في مجالات الأدب والنقد والثقافة والمجتمع، ما يستحق التقدير والاحترام ويستثير الاهتمام، كما تنبثق عنها، من حين لآخر، حلقات نقدية متواضعة لكنها ناشطة بشكل دائم، مكوِّنة حراكًا أدبيًا ونقديًا بكل ما للكلمة من معنى!
وقد تجدر الإشارة، بأن المحامي سعيد نفّاع حسنًا فعل في ما كتبه بمقالته الأخيرة حول النقد الأدبي المحلي، إذ يقول "وأعتقد أن الطريق للخروج من هذا العيب هو في المساهمة في تنظيم الحركة الإبداعيّة"! وأنا بدوري أضم صوتي إلى صوته، مضيفًا إلى ذلك الآتي: المطلوب المشاركة الفاعلة والإسهام الفعلي الحقيقي بالكتابة الإبداعية، لاسيما في النقد الأدبي، شرط أن لا تقتصر تلك الكتابة، على الأسماء المشهورة أو المعروفة فقط! وتلك إشكالية يجب أن يوضع لها حدّ ونتخلّص منها، وأن تنتهي من بيننا مرة واحدة وإلى الأبد، حتى يُلتفت ويفسح المجال أيضًا أمام الأقلام المبدعة الواعدة والأسماء الجديدة من الكتّاب الموهوبين بيننا! وإلا أشبهت حال أولئك الذين تقتصر كتابتهم على تلك الأسماء المشهورة فحسب، حال الراوية في حينه ودوره الذي يشبه الوعاء في حفظ الأشعار، وعدم مفارقته للشاعر، إنما عليه أن يتبعه كظله أينما ذهب في حله وترحاله، طالما بقي على قيد الحياة! كذلك، يوجد بيننا بعض الأقلام من ذوي القدرات وأصحاب الكفاءة، التي يتوجب عليها أن تشكّل قدوة تقتدى ومثالاً يحتذى للآخرين لاسيما للخريجين من الجامعات والمعاهد العليا. مجمل القول واعتمادًا على ما سبق: ثمة فرصة سانحة للدعوة أو المبادرة من أجل التأسيس لخطوات حثيثة وملموسة على أرض الواقع، وبذل كل جهد ممكن، من أجل تحسين واقع النقد الأدبي والنهوض به ودفعه إلى الأمام، كأن يتم، على سبيل التمثيل، عقد اجتماع مصغّر للتشاور والتداول في كيفية ترجمة مثل تلك الأفكار إلى واقع ملموس.
[email protected]