لكي ندرك مدى الدرك الذي وصلنا إليه، والدرك الأسفل الذي يمكن أن نصل إليه إذا استمرت القيادة والقوى الفلسطينية على ما هي عليه من استمرار المراوحة في نفس المكان، وتغليب التمسك بالسلطة والمصالح الفردية والفئوية والفصائلية على المصلحة الوطنية، وإعادة إنتاج إستراتيجيات الانتظار والرهان على المفاوضات أو المتغيّرات أو المحاور والأطراف الإقليمية والدولية؛ علينا أن نتمعن في رهان طرفي الانقسام على من سيفوز في الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري اليوم، ما يعكس العجز عن الفعل والمبادرة. فأحد طرفي الانقسام يراهن على فوز بنيامين نتنياهو كونه يسعى لإدامة الانقسام الفلسطيني رغم تأكيده أن حسم الأمر عسكريًا في غزة قادم، بينما الطرف الآخر يراهن على فوز بيني غانتس، لأنه سيشن حربًا شعواء على حركة حماس والفصائل في قطاع غزة وسيفتح الباب لإحياء أوهام عملية التسوية. فبدلًا من الرهان على أنفسنا ووحدتنا وعناصر القوة التي نملكها ويمكن أن نحصل عليها، نراهن على من يريد قتلنا بالرصاص، ومن يريد قتلنا بحبل المشنقة. يظهر الحال الفلسطيني في أسوأ أحواله بردة الفعل الفلسطينية البائسة والباهتة على إعلان نتنياهو عن خطة لضم غور الأردن وشمال البحر الميت - التي اكتفت بالتهديدات اللفظية وإصدار البيانات النارية - كخطوة أولى على طريق ضم الضفة الغربية، إذ يتبع الأغوار ضم المستوطنات، وهكذا انتهاء بضم الضفة كاملة، أي ضم الأرض بعد تفريغها من السكان، ومن تبقى منهم يحصل على حق الإقامة من دون حقوق ولا جنسية. الرئيس ومن بعده اللجنة التنفيذية بعد اجتماع تشاوري، ومن قبله وبعده الفصائل؛ قرروا أن الإقدام على ضم الضفة سيؤدي إلى إنهاء الاتفاقيات (أشدد على كلمة إنهاء) من دون أي استعدادات جدية لتحقيق ذلك. غير أن الأمور جرت بصورة اعتيادية بعد ذلك. فلماذا لم نقم بما يجب القيام به قبل وقوع الجريمة؟ لماذا انتظار قدومها بحيث يكون الرد ردة فعل وليس فعلًا متكاملًا وجزءًا من إستراتيجية شاملة؟ فلم نسمع عن تحركات سياسية اقتصادية قانونية إعلامية شعبية كفاحية بمستوى خطورة الإعلان، ولا بمستوى خطورة ما يجري على الأرض، وهو أخطر بكثير من الإعلان؛ كونه يجسد الضم الزاحف الذي يمهد لإنجاز الضم القانوني. فبالأمس القريب، قررت الحكومة الإسرائيلية إقامة مستوطنة جديدة في الأغوار، والتعامل مع المستوطن باعتباره مواطنًا يحق له التصرف كمواطن في بلده. لم تنطبق السماء على الأرض عندما اعترفت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بضم القدس واعتبارها عاصمة موحدة لإسرائيل، ولم تنفذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي رغم مرور سنوات على اتخاذها، ولم يُطبق قرار الرئيس بوقف العمل بالاتفاقيات، لذلك لم تأخذ إسرائيل تهديده الجديد بإنهاء الاتفاقيات على محمل الجد. و"لو بدها تشتي غيمت"، فلم نسمع أن الرئيس أو القيادة قامت بخطوات بمستوى خطورة الإعلان. حتى اللجنة المشكلة للبحث في تنفيذ ووضع آليات تطبيق قرار وقف العمل بالاتفاقيات اجتمعت اجتماعًا يتيمًا، وشهد بعض الخلاف بين من يريد تنفيذ قرار الوقف، ولو بشكل جزئي، وبين لا يريد، وانتهى الاجتماع بلا قرارات، وبقي الحال على ما هو عليه؛ أي الرهان على البقاء، وأن إسرائيل لا يمكن أن تسمح بانهيار السلطة، لأنها تحقق مصلحة لإسرائيل، فضلًا عن الرهان على الغير، وخصوصًا على الأعداء، كما يظهر في الرهان على خسارة نتنياهو في انتخابات اليوم، وخسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني 2020. فالرهان على الغير خاسر في كل الأحوال. إضافة إلى ما سبق، لا تزال هناك فرصة لنجاح نتنياهو في تشكيل حكومة يمينية برئاسته، وإذا لم يتمكن نتنياهو من تشكيل الحكومة لن يتمكن غانتس من تشكيلها من دون الليكود، وهو مهّد لذلك من خلال إشادته بالليكود، وتأكيده بأنه ليس ضد أن يكون في ائتلاف حكومي معه من دون نتنياهو، في إشارة إلى أن مشكلته مع نتنياهو، هذا مع العلم أن سياسة غانتس لا تختلف جوهريًا عن نتنياهو حتى لو شكل حكومة من دون الليكود، فكيف إذا كانت حكومة وحدة وطنية بوجود نتنياهو، وهذا مستبعد، أو من دونه، مع العلم أن خلفاءه في الليكود ليسوا أقل سوءًا منه! هذا مع بقاء احتمال الذهاب إلى انتخابات مبكرة للمرة الثالثة، وخصوصًا أن نتنياهو رفض إعادة التكليف لرئيس الدولة إذا فشل في تشكيل الحكومة، وهذه الإمكانية واردة ما دام نتنياهو مستعدًا لحرق الأخضر واليابس لكي يفوز ويتجنب الدخول إلى السجن، فهو يعطي الأولوية لمصالحه الشخصية، فضلًا عن تمسك الليكود به، وأن الاستطلاعات تعطيه أكبر نسبة من القيادات المرشحة لرئاسة الحكومة، رغم الاتهامات التي تلاحقه بالفساد وخروجه عن القيم والقواعد الديمقراطية، فكل هذا لا يهم الناخب الإسرائيلي، فيكفيه أن نتنياهو مستعد لإقامة "إسرائيل الكبرى"، و"القضاء على العرب" قبل أن يقضوا على اليهود. علينا أن ندرك وأن نتصرف على هذا الإدراك بأن هناك لاءات كبيرة معروفة للجميع تحكم الأحزاب الإسرائيلية، إذ إن الرهان على الخلافات ما بينها في الوضع الفلسطيني الحالي مجرد أضغاث أحلام، لأن الأولوية تستدعي بناء المشروع الوطني الذي ينطلق مما يجمع الفلسطينيين، مع الأخذ بالحسبان ما يميزهم ويفرقهم في تجمعاتهم المختلفة. لا يجب الاستهانة بإعلان نتنياهو بضم الأغوار وشمال البحر الميت والمستوطنات والتعامل معه كأنه دعاية انتخابية، لأن هذا جزء أساسي من المشروع الصهيوني الذي اعتمد منذ البداية على خلق حقائق على الأرض، ثم ترسيمها قانونيًا ومؤسسيًا في الوقت المناسب، حتى خطة "إيغال ألون" التي طرحت بعيد حرب حزيران 1967 تقوم على ضرورة الاحتفاظ بغور الأردن، ويكرر مختلف الأحزاب في دعاياتهم أثناء الانتخابات وبعدها ضرورة السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن، والفرق الأساسي فيما بينهم بين من يريد الضم الآن، أو ضمن اتفاق مع بقاء السيطرة الإسرائيلية إلى أن يتم ذلك. ما الخطة الفلسطينية في اليوم التالي بعد كل من جرى من فرض حقائق احتلالية على الأرض، ومن فرض خطة أميركية إسرائيلية متسارعة لتصفية القضية الفلسطينية، ويمكن أن يجري، سواء إذا فاز نتنياهو أو غانتس، أو شكلا معًا حكومة وحدة وطنية، أو ذهبا إلى انتخابات ثالثة؟ لا يوجد بديل ولا خطة ملموسة، وإنما مجرد إعلانات عن عدم التفريق بين مناطق (أ) و(ب) و(ج)، ووقف العمل بالاتفاقيات الموقعة من دون وقفها، ما يجعل الحديث عن إلغائها في حال تم الضم مثل الشيك بلا رصيد. فما نراه مجرد ادعاءات عن خطط وضعت وخطوات نفذت، ويجري الاستعداد لتنفيذها، مثل الاستعداد لشراء النفط من بلدان أخرى، مع أن هذا ضمن اتفاق باريس وليس خروجًا عليه، ومع ذلك نسمع حوله جعجعة أكثر ما نرى طحنًا . يقول واقع الحال إن من أوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها لا يستطيع أن يخرجنا منها، ما دام لا يزال مقتنعًا أن طريق أوسلو صحيح أو إجباري ولا يمكن الخروج منه، وأن إلغاءه أو التخلي عنه يخدم إسرائيل، وأن المخرج منه إعادة إنتاج شبيه له والعودة إلى دوامة المفاوضات العبثية، مع أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تخلت عنه منذ فترة طويلة ولا تريد إلغاءه حتى لا تتحمل المسؤولية عن ذلك، وحتى تبقي الفلسطينيين مقيدين بالتزاماته. فعملية السلام ماتت منذ زمن ويجب دفنها، ويجب على القادة الفلسطينيين الكف عن ترديد أن هذه الخطوة أو تلك أدت إلى نسفها، ما يعكس استمرار التعلق بأذيال أوسلو. كما يشير واقع الحال إلى أن أكثر من 70 عامًا على إقامة إسرائيل، وأكثر من 50 عامًا على احتلالها في العام 67، ومرور 26 عامًا على اتفاق أوسلو؛ أوجد بنية كاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، أوجدها ويغذيها ويقويها أصحاب المصالح الذين نموا في ظل الاحتلال والانقسام، وانتشروا في ظل غياب البدائل الحقيقية، وهم يرون أن استمرار الاتفاقات والالتزامات هي بمنزلة بوليصة تأمين على الحياة لاستمرار السلطة، والوضع الذي حققوا منه وفيه نفوذًا وثروة لا يمكن التفريط بهما بسهولة. يبقى باب الأمل مفتوحًا لأن الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني مهددة في وجودها ومصالحها وحقوقها، وتعاني من هذا الوضع، ولا تزال صامدة في وطنها، وتحمل حلمها بالعودة في تجمعات اللجوء والشتات. والأهم لا تزال مستعدة لمواصلة الكفاح لتحقيق أهدافها وطموحاتها الفردية والوطنية. هناك ما يشير إلى أن العالم مقبل على نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لن تكون فيه يد الولايات المتحدة وإسرائيل العليا، ولعل ما يجري في المنطقة وعلى امتداد العالم، وبما في ذلك تفجيرات معامل شركة أرامكو السعودية، يدل وبشكل متسارع، خصوصًا إذا لم يكن هناك رد أميركي أو من أطراف أخرى، بأن شمس الإمبراطورية الأميركية بدأت بالمغيب، وهناك عالم وإقليم يتشكلان من جديد، ويمكن جدًا أن يكون فيهما مكان لائق لفلسطين والعرب إذا وفروا المستلزمات المطلوبة. |
[email protected]