جلستْ على سريرِها الأسودِ تبكي ماضيها وحاضرَها ومستقبلَها.. كانتْ دموعُها سيلاً متدفّقًا.. راحتْ تسترجعُ ما حدث لها بالأمسِ القريب.. تذكّرتْ ليلتَها الظّلماءَ؛ ليلتَها السّوداءَ القاتِمةَ الّتي بكاها القمرُ، والشّجرُ، والحجرُ.. وهل تنسى ليلةَ دفنتْ حبَّها وتَمسُّكَها بالحياة؟
ليلتَها الّتي تَمنّتْ حضورَ الموتِ فيها قبلَ أن تكتشفَ قسوةَ ودونيّةَ ذويها.. ليلتَها الّتي حوّلتْها إلى مجرّدِ جسدٍ فارغٍ مِن روحِهِ، ومِن فرطِ الحزنِ، ساعدتْ على ارتطامِ رأسِها بالجدرانِ الباردِة، تئنُّ صارخةً مِن أعماقِ أعماقِها.
أرادتِ اختيارَ شريكِ حياتِها بنفسِها.. ظنّتْ أنَّ هذا مِن حقِّها.. آمنتْ بالحبِّ، وتغنّتْ بالحبِّ الصّادقِ الطّاهرِ.. كانتْ تؤمنُ بِمقولتِها: بالمحبّةِ تستطيعُ الوصولَ إلى كلِّ شيءٍ.
صدّقتْ كلَّ شيءٍ، وضحّتْ بكلِّ شيءٍ، وأمضتْ أجملَ سنواتِ حياتِها بالجامعةِ.. عرفتْهُ وأحبّتْهُ حبًّا كبيرًا.. أقسما على الارتباطِ بالزّواجِ، وتعاهدا على أن لا يفترقا.
كانتْ تُحضّرُ للّقبِ الجامعيّ الثّاني، وكانَ هو يُحضِّرُ للدّكتوراه.. قرّبتْ بينَهما أفكارُهُما الثّوريّةُ والوطنيّةُ ..كانا يَمضيانِ معًا أجملً اللّحظاتِ، خصوصًا تلكَ الّتي تتعلّقُ بترتيبِ النّدواتِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ للطّلاّبِ العربِ من أصدقائِهم المُقرّبينَ.
اتّفقا على إتمامِ الزّواجِ بالسّنةِ نفسها، ولَمْ تُخْفِ الفتاةُ قصّةَ حبِّها وتعَلُّقِها بفارسِ أحلامِها، ولا هو أخفى ذلكَ.. تقدّمَ الشّابُّ يطلبُ يدَها، وقد باركتْ عائلتُها الخطبةَ، فالشّابُّ مِن عائلةٍ ثريّةٍ ومحترمةٍ، والمستقبلُ مفروشٌ أمامَهما بالزّهورِ.
باتا يقضيانِ معًا ساعاتٍ كثيرةً، يُحَضِّرانَ خلالَها لمراسيمِ الزّفافِ، ولَم يتبقَّ لموعدِ القرانِ سوى أسبوعَيْنِ.
في نشوةِ التّحضيراتِ هذهِ، اكتشفتْ عائلةُ الفتاةِ أنّ للشّابِّ أختًا تزوّجتْ بفتًى لا يدينُ بدينِها، وقد هاجرتْ معَهُ منَ البلادِ دونَ رجعةٍ، منذُ أكثرَ مِن عشرِ سنواتٍ.
جنَّ جنونُ الأهلِ وأعلنوا قرارَهُم بلسانِ والدِها:
اِنْسَيْ هذا الشّابَّ.. ستتزوّجين ابنَ عمّتِكِ.. صحيحٌ أنّهُ مُطَلّقٌ ويكبرُكُ بعشرينَ سنة، لكن أخواتهُ شريفات.
رفضتِ الفتاةُ قرارَ عائلتِها المُجْحِفِ رفضًا تامًّا، رغمَ الضّغطِ الّذي انتهجَتْهُ ضدَّها، ورغمَ حَبْسِها بغرفتِها، وطردِ حبيبِها وخطيبِها، ولَم يتورّعوا بتهديدِهِ بالقتلِ، لكنّها بقيتْ متشبّثةً بهِ، رافضةً الزّواجَ بابنِ عمّتِها مهما كلّفها الأمرُ. ولأنّ أباها صاحبُ سلطةٍ ونفوذٍ في القريةِ، استطاعَ التّغريرَ بأحد الشّخوصِ المرموقينَ في القريةِ، قصدَ تزويجِهِ بابنتِهِ، وعنوةً، دخلَ على الفتاةِ وهيَ بِملابسِ النّومِ:
- هل أنتِ موافقةٌ على الزّواجِ بي؟
- لن أقبلَ الزّواجَ بِهذهِ الطّريقةِ.
حاولَ إقناعَها بالعدولِ عن رفضِها الّذي لا مُبرّرَ لهُ في رأيِهِ، لكن دونَ جدوى.
غادرَ المنزلَ وهو يعترفُ لأبيها بأنّهُ فشلَ في ترويضِها، وأنّهُ لا يستطيعُ إرغامَها.
بعدَ ساعتينِ مِن مغادرَتِهِ، وبينما هي مستغرقةٌ في نومِها، أحسّتْ بأنّها ليستْ وحدَها في سريرِها، وأنّ ثَمّةَ يدًا آثِمةً تُحاولُ العبثَ بكرامتِها الّتي حافظتْ عليها سنينَ عديدةً، رغبةً منها في تقاسمِ حلوِها مع مَن تُحبُّ.
راحتْ تقاومُ وتصرخُ.. لكنّهُ والدَها.. أسرعَ يساعدُهُ.. أمسكَ برجليْها، وبتواطؤٍ مع أمِّها!
أصواتٌ غوغائيّةٌ ردّدتْ: لا تقلقي.. ستتزوجينَهُ.
كانتْ صرخةٌ مدوّيةٌ مزمجرةٌ فاقتْ حدودَ الاغتصابِ!
غادرتِ البيتَ مسرعةً ليلتَها.. استقلّتْ سيّارتَها بثياب نومِها.. دخلتْ أوّلَ فندقٍ صادفَتْهُ عيناها.. أمضتْ بهِ ما يزيدُ عن الأسبوعِ، لكن فورةَ الانتقامِ بقيتْ تشتعلُ لنفسِها ولشرفِها، إلاّ أنّ رغبةَ أخيها الّذي اطّلعَ على المشكلةِ، والّذي كانت تُحبُّهُ حبًّا شديدًا، أثنتْها عن فكرةِ الانتقامِ، لكن ما أثنتها عن فكرةِ الإجهاض.
دونَ وداعٍ تركتِ البلادَ لتسلكَ دربَ النّسكِ، لكن هيهات لها أن تنسى جرحًا لن يندملَ، أو أن تغفرَ لذويها ما اقترفوهُ بِحقِّ روحٍ أطفئتْ قسرًا وتَجبّرًا دونَما ذنبٍ.
[email protected]