(مداخلة الكاتب في أمسية تكريم الأستاذ الياس جبور في نادي حيفا الثقافي يوم 20/12/2018)
شفاعمرو .. ويكفي أنها بلدي لأهواها
نسائمها معطّرة عبير الزهر ريّاها
غلالُ مروجها قصيدُ العمرِ نجواها
سأهواها، ويكفي أنها بلدي لأهواها
أأنسى العينَ والوادي وظهر كنيسنا الأسمر؟
وفوّار الصّفا الزّاهي ببث سروره يفخر؟
أأنسى البرج؟ مَن ينسى ملاعب صبية العسكر؟
سأهواها .. ويكفي أنّها بلدي لأهواها
هذه الكلمات سطرها الشاعر الشفاعمري المرحوم الأستاذ إبراهيم بحوث، وباتت على شفة ولسان كل شفاعمري، وتؤخذ كقول مأثور تتناقله الألسن في كل مناسبة، وهي تعكس محبة الشفاعمري لبلده، هذه المحبة المتأصلة في نفوس وقلوب الشفاعمريين، فالشاعر يذكر أسماء بعض المواقع في قصيدته وهذه المحبة لشفاعمرو تجمع بين شاعرنا إبراهيم بحوث والمحتفى به هذه الليلة المؤرخ الشفاعمري الأستاذ الياس جبور جبور ( أبو جبور) ، كما جمعت بينهما محبة الجيرة والنسب. ومحبة شفاعمرو لم تكن وليدة الصدف، بل هي تنتقل من جيل الى جيل، من جيل الأجداد الى الأبناء فالأحفاد، وكم بالحري أبي جبور الذي نشأ ونما في بيت اعتبر مركز شفاعمرو ومنه اتخذت مواقف مصيرية في تاريخ شفاعمرو، وكما هو معروف فان عزيزنا أبو جبور هو نجل رئيس بلدية شفاعمرو الأسبق، ثاني رئيس لبلدية شفاعمرو المرحوم جبور جبور (أبو الياس) بين الأعوام 1933-1969، شهدت مفاصل دقيقة وحرجة من تاريخ شفاعمرو والمنطقة، وقد أحب شفاعمرو حبه لأولاده وأورثهم هذا الحب، وأقدم مثالا واحدا هنا لضيق المجال، وهو المقال الذي كتبه الوالد جبور جبور، في مجلة "الرابطة" عدد شباط 1966" وقامت رابطة الطلاب الجامعيين بإعادة نشره في مجلتها "الكساير" 1983، ويظهر فيه محبة المرحوم لأراضي شفاعمرو وعدم التنازل عنها يقول فيه:
" وسأظل أعتبر قسيمة الأرض رقم 14 بلوك 10233 بموقع تل الزبدة، هي أرضي وان كان يتصرف بها الآن شلومو أو مردخاي أو موشه، وسيبقى أولادي ينظرون هذه النظرة إلى تلك الأرض وأنها انتزعت منا بصورة غير شرعية وغير عادلة".
خصص الأستاذ الياس لتاريخ شفاعمرو ثلاثة كتب من مؤلفاته، إضافة الى عشرات ان لم يكن مئات المحاضرات في البلاد والخارج، واللقاءات الصحفية والإعلامية، وكراسات صغيرة، أما الكتب والتي سأتوقف عندها فهي: " زهرة القندول" 1998، " من شذى بلدي- شذرات من ماضي شفاعمرو"، " صفحات من تاريخ شفاعمرو" 2010 اللذين أصدرهما في المئوية الأولى لتأسيس بلدية شفاعمرو.
من الملاحظ أن مؤرخنا لا يقدم دراسة علمية مقرونة بالوثائق أو المراجع، انما يقدم لنا صفحات أو كما أسماها " نتف" أو "شذرات" من تاريخ شفاعمرو، وهي صفحات تعبق بشذى الماضي، كما أشار في مقدمة الكتاب، فهو يغرف من الذاكرة التاريخية، كما عاشها في بيت والده رئيس البلدية وكما سمعها ممن عاصروا تلك الفترة، فهي أقرب الى التاريخ الشفهي المنقول ومن الذكريات الحيّة منها الى الدراسة التاريخية.
واخترت من هذه الكتب ثلاثة محاور أراها تجمع تاريخ البلدة، ولا يعني ذلك أنه يمكن الاستغناء عن سائر المحاور، لكن كاتبنا أبرز واهتم بهذه النواحي وهي: المواقع، الشخصيات، الأحداث.
تاريخ حي لشعب حي
المواقع: من القلعة التاريخية أو السراي، دير ومدرسة الراهبات ويتبعهما باب الدير، السوق القديم وبجواره باب الحواصل، فرن القرية، البرج، المدرسة الأسقفية (الكاثوليك)، مدرسة "المكتب"، النبعة وعين الماء، حارة الزقاق. وكلها أماكن، بل معالم رئيسة وأساسية ساهمت بتشكيل تاريخ شفاعمرو. ولأنه لا يمكن التوقف عند كل موقع، فاني أكتفي بمثال واحد من كتابات الأستاذ الياس جبور، ألا وهو السوق القديم الذي نعته بأنه "قلب البلد"، بالإضافة للحركة التجارية التي شهدها أشغل ما يشبه برلمان البلدة، " ففيه وعلى جوانب هذه الحوانيت كان يجلس الشيوخ وكبار السن يتبادلون الأخبار ويتشاورون في أمورهم ويستعرضون مشاكلهم وخصوصا ما كان يتعلق بالحكومة العلية/ التركية. بعدها ينتقل ليعرفنا على أصحاب الحوانيت والمهن المختلفة " وكان السوق يحوي جميع أنواع الحوانيت فهناك البقال واللحام وبائع الخضار والساعاتي والمصوراتي والحلاق والحداد والاسكافي وحتى البوسطة (البريد) مع التلفون الوحيد واليتيم في البلدة بأسرها وعدد من المقاهي".
الشخصيات: أبرز شخصية تناولها الكاتب الياس جبور كانت المعلم أبو رشيد "انه يدعى وبحق شيخ المعلمين! لا زلت أذكر الأستاذ بلباسه العربي التقليدي، بقمبازه وحطته وعقاله وقد سار وعكازه بيده يتوكأ عليه في مشيته المتئدة وخطواته القصيرة" ( زهرة القندول ص 43).
وهناك الحمال أبو معروف الاشتراكي الأول كما يسميه، ونعيش مع منادي القرية تلك الأيام التي شكل فيها وسيلة الاعلام الرئيسة، أبو صالح السلفيتي (القشقش) ويصفه: وقد كان المنادي يقف على قمة الرابية ينادي من فوقها بصوته الجهوري كي يسمعه الجميع.. كان صوته الجهوري يصل الى مسامع كل الناس بدون استثناء ويطرق آذانهم .. (م. س، ص 82-83).
ثم الفران وفرنه الذي شكل اذاعة القرية في ذلك الحين، ونعرج على بائع الزعرور وبائع العنبر أو القرمش والهريسة، عوض (أبو راجي) الذي يسير في شوارع البلدة حاملا عصاه على كتفه وقد تدلت عليها حبال القرمش الوردي اللون والحلو المذاق وهو يسرع الخطى في طريقه الى البيادر القريبة.
أبو الكامل وتاكسياته التي لم تكن الا عبارة عن حمارين لنقل الناس من البلدة الى حيفا، وكان ينشد القصائد الزجلية الجميلة للترفيه عن ركابه وللتخفيف عليهم من عناء الطريق (م. س، ص88)
الأحداث التاريخية: يتناول الأستاذ الياس جبور في كتبه ما مر على شفاعمرو من أحداث مفصلية وأهمها احتلال شفاعمرو، حيث يسرد لنا الكاتب ما يذكره أولا في تسليم الأهل بالأمر الواقع في سقوط شفاعمرو، على ضوء ما جرى لعشرات القرى والبلدات العربية، هروب الرجال إلى الناصرة ولبنان، النساء يحتمين بالدير والكنائس، احتلال شفاعمرو يوم 13-14 تموز 1948، تعرضت البلدة للقصف المباشر بالقذائف على عكس ادعاء البعض أنه كان هوائيا والدليل مقتل ثلاثة أشخاص (صفحات، ص 69-70). محاولات منع الرجال من الرحيل والبقاء في البلد باءت بالفشل، " وكعادته يرفض والدي أن يغادر بيته ووطنه رغم الخطر الداهم. وكان من تلك الفئة القليلة من القيادة الفلسطينية الواعية التي فضلت الموت في بيوتها من أن تصبح ملوكا في بلاد الغربة (م.س، ص 70).
ويستعرض مقتل صالح أفندي، صلحة شفاعمرو الكبرى، معركة الفوار، معركة هوشة، الحكم العسكري، حادثة الباصات، قصة الماء والكهرباء، مستشفى شفاعمرو.
الكاتب الناقد وحامل جرس الانذار
عندما قرأت كتب أبي جبور، أو عندما عدت اليها بمناسبة أمسية التكريم هذه، شعرت بفرح غامر ممزوج بالاعتزاز والحنين للماضي وبشغف كبير لقراءة الكتب بنهم كبير ورغبة قاتلة، فرحيق شفاعمرو وشذاها المنبعث من أمجاد ماضيها، يجعلني ضعيفا أمامه وكم بالحري عندما تكون مادة مشوقة تتحدث عن الناس والمواقع التي شكلت صفحات رائعة من تاريخ شفاعمرو الحديث، الذي نشأنا على أواخره ونتذكر شذرات منه ينقلها لنا في كتابه أبو جبور، تجعل أحاسيسنا تتفاعل وتكاد الدموع تطفر من العيون وهي تقرأ عن تلك الأيام المجيدة.
يكتب أبو جبور من منظار الانسان الناقد أيضا، وليس الحافظ للتاريخ فقط، ولهذا وربما، بدون قصد أو بقصد، تتداخل نظرة الانسان المسؤول الناقد للظواهر الشاذة، ولابتعاد الناس في زماننا عن تاريخ وتقاليد الأجداد والآباء، وتخليهم عن القيم التي سادت مجتمعنا الى وقت ليس بالبعيد، وهذا يؤدي بالكاتب الى توجيه الملاحظات الناقدة والمحذرة من تبعات تلك الأمور، وأسوق هنا مثالا عينيا على ذلك. في سرده لقصة مشروع بناء مستشفى في شفاعمرو، ضمن أبو جبور سرده انتقادات لمسؤولين وجهات فرطوا بشكل أو بآخر بالمشروع الحيوي، وسعي بعض الأطراف الى تحويل البناية الى استخدام المدرسة الثانوية، كما أشار الى دور الحكومة السلبي وسعيها لوأد المشروع، ويختم القصة بالقول " ولربما تكون الحكومة بهذا قد حققت بعضا من أهدافها المبطنة وقد نكون نحن قد ساعدناها على ذلك سواء عن قصد أو عن غير قصد!!" ( من شذى بلدي، ص81).
وفي حديثه عن مدرسة "المكتب" ينتقد الكاتب هدم البناية القديمة للمدرسة والتي شيدت من حجارة القلعة، والتفريط بقيمتها التاريخية بدل الحفاظ عليها (م. س، ص31). ويختم أبو جبور مقالته عن باب الدير بتوجيه عتاب ولوم للناس وخاصة من الشبيبة الذين يجهلون ما قدمه دير الراهبات من خدمات جليلة للبلدة وأهلها عامة، فيقول" أيها الناس رفقا بهؤلاء الراهبات! أيها الناس يا حبذا لو تعيدوا لهذا الموقع بعضا من اعتباره المفقود، وعزه القديم، ومجده التليد وإن كنت أعرف أن الأمجاد الغابرة لن تعود!!.. رحم الله أيام زمان!!.." (م. س، ص 110) فهل من يسمع أو يستجيب؟!
ورغم المتعة وندرة المعلومات، إلا أنني شعرت بشوق الى المزيد، فما أورده أبو جبور عن تلك النماذج النادرة من الشخصيات الشفاعمرية والمواقع والأحداث المفصلية لم يشبع حب الاستطلاع عندي، وربما عند آخرين، وأظن ان تفاصيل أخرى نحتاج اليها لنرتوي من سيرة تلك الشخصيات، التي تعكس مرحلة تاريخية مرت على مدينتنا العزيزة.
وبمناسبة تكريم مؤرخ بلدتنا وأستاذنا وقدوتنا أبي جبور، أتمنى له طول العمر مقرونا بوافر الصحة، متمنيا عليه أن يتحفنا بعد من مخزون ذكرياته وكتاباته التي نعتز بها ونتعلم منها.
(شفاعمرو)
[email protected]