إن مفهومَ الأغنيةِ (المتّزنة) أو الواعية عندي أشمل من الأغنية الملتزمة، لأنه يركّز على الفعل والممارسة:
أنْ يخلقَ الشاعرُ نصّاً يستشعره، وأن يجسّدَ الملحنُ النّصَّ الشعريَّ لحناً موسيقياً، وأن يعيشَ المغني التجربةَ أمامَ المايكرفون.
فالعلاقةُ بين الفنُّ المتّزنُ والجمهور هي علاقةُ تعاقدٍ لا علاقةَ تنازلٍ أو تجاهل.
الإبداعُ تواصلٌ راقٍ يطلقُ العنانَ للمشاعرِ الإنسانيةِ النّبيلة، ويمسُّ الناسَ بحريتهم ويستدرجهم للاستمتاع بها.
الإبداعُ مطلبٌ وجودي يتمظهرُ في شكلِ واجبٍ ينتظرُ من الجمهورِ القيامَ به من خلالِ الوعي بحرّيتهم واستثمارها.
الأغنيةُ هي ذاكرةٌ بالنسبة لمن عايش ميلادَها، فهي كائنٌ يحيى ضمن الظروفِ المواكبة والمواتية للحدث، واستمرارُها يعني دخولَها ضمن الشّمولية المطلوبة.
وأخرى تموت لأنّها لا تمتلكُ مقوّمات البقاء، أما الخالدة فهي المنتمية للأرض، ووليدةُ جذوتها.
ها نحنُ الآنَ نفتحُ هذا الملف لكثرةِ ما نسمعُ هنا أو هناك عن مفهومٍ لم تتضحْ ملامحُهُ بعد، رغمَ أنَّ المعنيين يتفاعلون معه ككتلةٍ عامّةٍ دون الخوضِ في تفاصيلها، وأنَّ أمراً آخرَ لفتَ نظري أثناءَ رصدي لمسيرةِ أبرزِ رموزه، وهو تباينُ وجهاتِ النّظر في أصلِ التّسمية، بل وفي انعكاساتها على كل ما يتبعُ ذلك من تفاصيل.
فبعضُ الملتزمين بهذا النّمطِ الغنائي قال:
أنا لا أقسِّمُ الأغاني بهذا المعنى، فالأغاني التي أغنّيها استحضرُ بها الحياةَ، فهناك العشقُ مع الألم، وهناك الأمُّ، والحبيبةُ، وهناك الشّجر والبحر. وحتّى الصحراء..
وآخرٌ قال: أنّه بمجرّدِ ارتبطتْ الأغنيةُ أساساً منذُ بدايتها بموقفٍ معيّن أصبحت ضمن هذه الخانة، فليس بالضرورةِ تأطيرُها لأنّها تحملُ هذا الموقف أو من يغنّيها هو من يلتزمُ بهذا النّوع، فحملت هذه الصِّبغة.
فالحقيقةُ هناك تحفّظٌ كبيرٌ نحوَ مسألةِ هذا التّصنيف، فالإيمانُ هنا بأنَّ هذا الفنانَ جيّدٌ في غناءِ الأدوارِ والموشّحات، وهناك من يتقنُ فنَّ القصيدةِ والنّشيدِ، فعندما نقولُ مغنيّاً ملتزماً بالأغاني الوطنية، وآخرَ ملتزماً بأغاني الحبّ، فأنا هنا أضعُ الفنانَ بخانةٍ ظالمة، فالفنانُ الحقيقي هو من يعي هذه المساحات بكلّ عناوينها الكبرى، القومية والوطنية والسياسية والإنسانية، كتلة لا تتجزّأ، إن كانت ضمن مساحاتها الكبيرة أو الصّغيرة.
فقد طرحتُ هذا السّؤال أمامَ الشارع العام، ماهي الأغنيةُ الملتزمة،:؟
وهذا ما عنيته فعلا.. حينَ ذلك أتاني الجواب:
أنا لا أعرف
وآخر أنا أعرف أنّ هناك فنّاً جيداً وآخرَ لا.
وبعضُهم من قال أظنُّها المرتبطةَ بالإيقاعِ والأشياء القديمة.
أو هو الذي يقدّمُ قضايا تمسُّ المجتمعَ؛ وطنيةً كانتْ أمْ اجتماعية.
فأنا هنا لا أستطيعُ تحميلَ الغناء المعنى الالتزامي أبداً.
هذا برأيي طبعاً...
فعندما جاء جون بول سارتر، وأثار عالميّاً موضوعَ الفنِّ الملتزم، فكان هذا الالتباس من قبل الآخر حين كان هناك من هو مع ومن هو ضد.
وعند إبحارنا في تجربةِ الفنّان عزِّ الدين الأمير ... نجدُ ما يحاكي هذا السّهل الممتنع الذي أراده أن يكون، ضمن تلك الإشكاليات والالتباس بالمعنى والتّعريف، فالرُّقعة التي حرَصَ على توسيعها، هي رقعة الحبّ والتّسامح الإنساني، وثقافة قبول الآخر.
فالهدف هو الإنسان الذي اعترفه قيمةً عليا تلازمُ حقوقَ التعبير عن الذّات، في خضمِّ التّشابك الآسر للمحيط والمجتمع، فالعودُ الذي أرفقه على سعة السلّم الموسيقي هو وترٌ يعزف داخله في برهة اللّحظة التي تجتاحُه مسندةً على شراع خصوصيته.
ففي قوله: إنّ الانسانية تدعو دائماً للإخاء ونبذ التعصّب واستهجان العنف، وذم الحروب وإنني أعبّر بالقدْرِ المستطاعِ عنها ضمن أغانٍ أرسم خطاها على مسامع متلقّيها، فهي على شكل أفكارٍ لا تهتمّ للزخم الموسيقيّ بقدْر ما هي ترجمة لإرهاصات النّفس.
فضمنَ هذا الكمِّ من الإنسانيات الّلائقة بالمفردة والمعنى نجدُ إسهامَ هذا النّوع الّذي أدرجناه تحت مسمّى الملتزم يعدُّ وفقَ قوانين محدودةٍ غيرِ ملزمةٍ بأيّ حقوق لدعمها، من حيث الألحان، والتوزيع الموسيقي، والإنتاج الفنّي، والتمويل.
عَودٌ على بَدْء، بأنَّ المسمّى المتّصل والمتلاصق لهذا النوع أدركه الكثيرُ بعدم القبول، لأنّه لا يملكُ مكسباً ربحياً مثلاً، أو أنّه لا يلاحقُ الموضةَ والعصر، وهذا لا يعني استخفافا بالفنّان أبداً، بلْ هي جملةُ تساؤلاتٍ ترافقُ التّجديدَ بالمادّة التي يحقُّ لأيّ شخصٍ تجريدُها من فحواها الأصل، والقيامُ بتوزيع ألوانها كما يرغبُ هو وبقدْرِ ما أرادَ من استثناء.
[email protected]