تداعيات اسم الرواية
يثير اسم رواية "أنا وجدّي وأفيرام" للكاتب الأردنيّ زياد أحمد محافظة*، دهشة القارئ متسائلًا: ما الذي يجمع بين الراوي، وليد المرتّل، وجدّه، وأفيرام؟ لا عجب من أن نجد الكثير ممّا يجمعه بجدّه، فالمنطق يوحي بنشوء علاقة حميميّة بين الحفيد وجدّه وهو أمر طبيعيّ، لكن أن يأتي بأفيرام ليتمّم اسم الرواية فهذا أمر مستهجن، فالاسم أفيرام يوحي على الغالب بشخصيّة تتنافر مع الراوي وجدّه كون الاسم منسولًا من تراث آخرَ غريبٍ عن التراث العربيّ، لكنْ عندما يسترسل القارئ في كشف مجاهيل السرد يدرك العلاقة بين هذه الشخصيّات الثلاث، إنّها شخصيّات أساسيّة تشكّل محور أحداث الرواية، وقد رتّبها الكاتب وفق الأدوار المسندة إليها في الرواية، فلّما كان مدار السرد مرتبطًا بشخصيّة وليد جعل اسمه أو ما يدلّ عليه في مقدّمة اسم الرواية التي تحكي قصّة وليد المرتل على وجه الخصوص، ثم يردفه باسم الجدّ الذي لا يقلّ دوره عن دور وليد لما له من أثر على وليد وأهل قريته، ولأنّه رمز لكلّ فلسطيني يؤثر الموت على التفريط بأهله وأرضه ويرفض عمل الشباب في الداخل الإسرائيليّ، أمّا أفيرام فهو رمز لليهوديّ المحتلّ، ويمثّل أبرز الشخصيّات المضادّة لوليد وأشرسها، إضافة لشخصيّات أخرى كالكولونيل نحمان، والمحقّق رامي، وعزرا يوسي الممرض المسؤول عن صحّة نزلاء بيت العجزة وغيرهم من الشخصيّات المضادّة الموظّفة في الرواية، بذلك يتمكّن القارئ من فهم اسم الرواية بعد اطّلاعه على أدوار تلك الشخصيّات في الرواية.
ما وراء المضمون
إنّها رواية مراوغة توهم القارئ بأنّها رواية مكرورة تصوّر حياة كلّ فلسطينيّ يعاني من نير الاحتلال، ملاحقته، سلب خيرات بلاده، اعتقاله، تعذيبه والتضييق عليه، ناهيك بما يجده من قسوة ظروف حياته حتّى يقرّر التحرّر من عذاباته هاربًا إلى فضاء جديد بعيدًا عمّا يعكّر صفو حياته، ممّا يوحي بأنّ الرواية لا تأتي بجديد، إلّا أنّ الكاتب يعمد إلى كسر توقّعات القارئ عبر النهاية المفاجئة، إذ يقرّر بطل الرواية العودة إلى قريته بعد أن هجرها فترة طويلة؛ ليكون قريبًا من بلاده المنهوبة وكأنّه يدعو إلى هجرة عكسيّة، هجرة من المنفى والشتات والتشرّد إلى موطنه فلسطين، عازما على التصدّي لكلّ الظروف التي تعرقل صفو حياته؛ ليسعد في قريته، قريبا من أهله وأرضه بعد أن هيّأ لنفسه كلّ الظروف التي تعينه على ذلك، وقد صرّح لصديقه الكاتب بذلك في قوله: "أمّا أنا فأستطيع القول إنّ حكايتي الحقيقيّة ستبدأ من الغد.. أنا عائد"(203). إنّه يعتبر هذه العودة إدانةً للنزوح عن البلاد وتصحيحًا لخطأ تاريخي اقترفه، يقول وليد المرتّل في رسالته للكاتب: "صديقي العزيز، حين تقرّر نشر هذه الحكاية التي أطلعتك على شيء منها، إن قرّرتَ هذا، أكونُ قد عبرت جسر الملك حسين وعدت إلى فلسطين، أكون قد صحّحت شيئًا كان لا بدّ من تصحيحه منذ زمن طويل"(ص204).
يتوزّع المتن الحكائيّ للرواية على ثلاثة فضاءات أساسيّة هي؛ قرية وليد المرتِّل دير البساتين، بيت العجزة في الداخل الإسرائيليّ، ودول الخليج العربيّ وخاصّة أبو ظبي حيث التقى وليد بالكاتب وطلب منه الاستماع لحكايته ونشرها إن أراد ذلك. يعرض المتن الحكائيّ موضوعات عديدة ومتنوّعة بدءًا من طفولة وليد، فقدان والده، علاقته المتينة بجدّه بهجت المرتّل وندمه على مخالفة مشيئة الجدّ؛ إذ يترك أرضه وقريته ويتوقّف عن متابعة دراسته الجامعيّة وينخرط كغيره من شباب القرية في العمل داخل إسرائيل بسبب ظروفهم الماديّة الشّاقّة، يتنقّل وليد من العمل الشاقّ في البناء، إلى العمل في أحد الفنادق، ليصل في نهاية المطاف للعمل في بيت للعجزة يدعى "بيتافوت هاتيكفا" في مدينة تل أبيب، وقد أعلم جدّه أنّه يعمل في أحد المطاعم.
تتعرّض قرية دير البساتين لمداهمات عديدة من قبل جنود الاحتلال قبل ولادة وليد وبعدها، ويتمّ اعتقال وليد بتهمة حيازة السلاح، هناك يقف على حقيقة المحتلّ الإسرائيليّ، ويواجه صنوفًا مختلفة من التعذيب حتّى إذا ما تحرّر من المعتقل العسكريّ وقع فريسة للمخابرات التي تلاحقه وتعكّر صفو حياته بسبب التهّم التي وجّهت له من زملائه في بيت العجزة، فلا يطيق مواصلة هذا النهج من الحياة ويقرّر النزوح إلى أبو ظبي، وهناك يمكث ما يزيد على ثلاثين سنة متنقلًا بين أبو ظبي والعراق، وفي العراق يكاد يجنّد في خليّة "أبو العبّاس" لمقاومة الاحتلال من الداخل، لكن فرصة العمل التي سنحت له في أبو ظبي حرّرته من ذلك، هناك يسعى إلى ترميم حياته فيشكّل أسرة، يتابع دراسته ويحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير وتتحسّن أحواله المادّيّة، وفي ذلك تعويضٌ لمن خذلهم، يقول وليد: "لكن إن كان ثمّة شيء إيجابيّ فعلتُه في كلّ تلك السنوات، هو أنّني استطعت اللحاق بكلّ ما فاتني، محاولا قدر استطاعتي تعويض أولئك الذين خذلتهم يوما، أو تقاعست فيما مضى عن تحقيق أحلامهم"(190).
رغم كلّ هذه الإنجازات التي حقّقها وليد، ظلّ يشعر أنّ شيئًا ما ينقصه، وفي ذلك يقول: "نعم، خرجت من فلسطين، لكن منذ ذاك اليوم، شيء ما ظلّ ينقصني"(206)، وقد بقيت عبارة الشيخ الغريب، وهو يخاطب جدّه بشأنه، مسيطرة على عقله لا تبرحه، قال الشيخ: "سيتعذّب في حياته كثيرًا، هذا أمر لا جدال فيه، لكن أخشى، وللخشية ما يبرّرها، أن يضع قدمه على الطريق، بعد فوات الأوان"(206 – 207)، ولم يفت الأوان برأي وليد، فقد استطاع التصالح مع نفسه ومع كلّ الذين خذلهم وأوّلهم جدّه، بعد أن اقتنع بعبارة صديقه الدكتور هاينز شوستر في قوله: "الوطن ليس فندقًا نلجأ إليه عدّة أيّام، ثمّ نغادره بعد ذلك عائدين لحياتنا الخاصّة" (211)، وهذا ما أكّده وليد حين عاد إلى دير البساتين إذ يقول: "أنا الآن في دير البساتين، وهذه وحدها تكفي لمصالحتي مع نفسي، ومع الحياة من جديد"(205). وقد استفاقت في داخله أشياء كثيرة بعثت في نفسه ارتياحا عميقا وسعادة لا حدّ لها، إنّه يتمتّع بكلّ ما يفعله؛ يتمتّع بصنع القهوة، عمله في أرضه، المطر الغزير الذي يهطل على دير البساتين، زيارته القدس بصحبة زوجته وأولاده، تجوّله في معالم قريته، ويرى كلّ شيء جميلًا لكن ما ينغّص عيشه كما يقول: "إحساسك بأنّ هنالك مستوطنين وجنودًا على مقربة منك؛ ينامون في بيتك، يقطفون ثمارًا هي لك [...] غرباء لا يمتّون لهذه الأرض بصلة، سرقوا الكثير من ماضيك، وقبل أن تمتدّ أيديهم لسرقة غدِكَ، ها أنت تقف اليوم، لتصرخ في وجوههم نحن أصحاب هذه الأرض وحرّاسها"(214)، بذلك يتّضح السبب الرئيس لعودة وليد، إنّه يضع حدًّا لابتعاده عن بلاده ويعمد إلى مقارعة المحتلّ والدفاع عن أرضه وحمايتها من أطماعه، بذلك تشكّل الرواية وعيًا مضادًّا للنزوح عن البلاد وصرخةً مدويّةً لهجرة عكسيّة دفاعًا عنها وحمايةً لها.
كيف يصبح الحكي علاجًا؟
يمكن اعتبار رواية "أنا وجدّي وأفيرام" رواية نفسيّة خالصة، فقد وقع وليد المرتّل فريسة لأسئلة كثيرة أرّقته وزادت من توتّره دون أن يجد لها إجابات شافية، حتّى إذا ما التقى بالكاتب وجد الفرصة سانحة ليقذف في حضرته بكلّ ما أرّقه من خلال سرد قصّته له، ليتحرّر من العبء النفسيّ الذي يحمله، وفي ذلك يقول وليد مخاطبًا الكاتب: " توهّمت أنّ لعبة السرد التي سأبدأها معك، ستريحني، ستزيح عنّي حمل
سنوات ثقال، ستخفّف عن كاهلي أعباء كثيرة، تعبت في جرّها ورائي"(205). إضافة لاعتبار هذا السرد كتاب اعتذار يقدّمه لجدّه لما ألْحَقَ به من خيبات عديدة في حياته، وأكاذيب لفّقها له، يقول وليد: "ربّما أردت أن يكون هذا السرد اعتذاري الأخير له (للجد)، فأسهل طريقة نعتذر بها من الآخرين، هي ببساطة أن نقول شيئًا من الحقيقة، حتّى لو آلمتنا"(206). يعترف وليد أنّ الإجابات عن كلّ تلك الأسئلة التي داهمته فيما يتعلّق بعمله في الداخل الإسرائيلي، وخاصّة في بيت العجزة ما تزال عصيّة رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما عليها، يقول: "نعم، لِمَ قبلت بكلّ هذا؟ أكنت أسيرًا للشواكل الكثيرة التي كانت تتدفّق لجيبي؟ أم باحثا عن أشياء غامضة لم أعرف ما هي؟ هل حقًّا كنت تائهًا لدرجة أن قبلت بالكثير من التصرّفات التي طالما جلست بيني وبين نفسي فيما بعد، وبكيت بسبب مرارتها؟..."(118)، يزداد حرج وليد وهو يطرح الأسئلة عن طبيعة عمله في بيت العجزة، ومن ذلك: "لماذا قبلت بكلّ ما جرى معي في بيتافوت هاتيكفا على وجه الخصوص؟ هل من شيء في هذه الحياة يسوّغ ذلك؟[...] أيُعقل أن يعتنيَ رجل بقاتله؟! أن يكون حارسه وحاميَه! أن تكون مهمّته رعايته والاعتناء به وإطالة عمره؟ أن يناوله حبّة دواء بدل أن يصوِّب لصدره رصاصة! [...] أليس موجعا أن تجد نفسك وجهًا لوجه أمام حالة صادمة كهذه؟"(210).
عندما يصوّر ما يلاقي من عذاب تلك الأسئلة على صديقه الكاتب، يقترح عليه التفكير بطريقة أخرى يجيب من خلالها عن كلّ تلك الأسئلة التي كثيرا ما وقف حائرا أمامها(138). في خضمّ تلك الأسئلة المربكة يتذكّر جدّه الذي لم يشتكِ من طيشه أو حماقاته بل تركه يكتشف مسالك نفسه ليقرّر الطريق التي يجب عليه أن يسلك فيها، حقّا إنّه حكيم قريته وذاكرتها المتّقدة(31)، وسرعان ما تلاشى عناء تلك الأسئلة حين وصل إلى قناعة بضرورة ترك كلّ النجاحات التي حقّقها والعودة إلى دير البساتين، وفي ذلك يقول وليد: "سرتُ أخيرًا وراء قناعاتي ورغباتي، ليس لأنّ العودة باتت الملاذ الأخير المتاح أمامي، أو لأنّ جميع الطرق سُدّت بوجهي فلم يبقَ غيرُ العودة، قرّرت هذا لأنّني وصلت إليه في داخلي، تاركا كلّ المكاسب التي احتجت سنوات طويلة لجنيها وتحقيقها"(211).
ثيمات متفرّقة
يلاحَظ أنّ الرواية مثقلةٌ بأفكار بارزة عديدة منها؛ تمسّك الإنسان الفلسطيني بأرضه مهما كلّفه الأمر، إضافة لإنسانيّته الفطريّة ومدّ يد العون حتّى لأعدائه كعلاج الجدّ لطفلة يهوديّة استعصى علاجها على يد الأطباء، ظاهرة الأشخاص المتعاونين مع سلطات الاحتلال من أبناء الشعب الفلسطينيّ طمعًا في بعض المكاسب الماديّة ونحو ذلك كصبري الغريب الذي يتجوّل بحريّة تامّة في إسرائيل، ويقصده كثير من الشباب في سبيل مساعدتهم للعمل هناك، شراسة المحتلّ وقسوته في التعامل مع الإنسان الفلسطيني، يلخّصها وليد بقوله: "كي أقول لك مقدار القبح الذي يعشّش داخل أناس امتدّت بينهم وبين أبسط معاني الإنسانيّة مسافات شاسعة"(153)، مدينة القدس ومكانتها في وجدان الشعب الفلسطينيّ فالوصول إليها برأي الراوي يساوي نصف الطريق إلى الجنّة(44) إنّها "مدينة قادرة على منح الأشياء مذاقها الخاصّ، وقادرة فوق كلّ هذا وذاك على إغوائك واصطيادك دون أن تعلم ما الذي تنوي فعله بك. سيقول لك كلّ من زار القدس أنّ بها سحرًا غامضًا، حسنًا، دلّني على شخص واحد فقط أراد يوما أن يشفى من هذا السحر"(45)، كما تصوّر الرواية نظرة اليهودي الرافضة للإنسان العربيّ التي يمثّلها أفيرام، أحد نزلاء بيت العجزة، وهو ضابط مقعد تركته عائلته في بيت العجزة دون أن يزوره أحد منها، حاول الانتحار، ومن مفارقة القدر أن ينقذه وليد من الموت، يحذّر زملاءه اليهود من العرب قائلا: "إيّاك أن تؤمن لعربيّ حتّى لو قضى مائة عام في القبر!"(139)، وفي المقابل تصوّر نظرة العربيّ لصراعه مع اليهودي، تلك النظرة التي ينتقدها وليد ويؤسّس لنظرة جديدة أكثر موضوعيّة، وعن ذلك يقول وليد: "توهّمنا أنّ الصراع لا يحسم إلّا على جبهة واحدة، هي السياسة والحرب[...] لا يكفي أن تكون صاحب حقّ لتنتصر، عليك أن تقاتل في الفنّ والموسيقى والفولكلور والثقافة والأدب أيضًا"(102)، ويبرز توظيف الجنس انتقامًا من العدو كعلاقة وليد الجنسيّة مع خيمدا، المشرفة المسؤولة عن بيت العجزة، يقول وليد: "كنت وأنا أنهش جسدها أراجعُ خساراتي وأقتصُّ على ما يبدو من كثيرين؛ الجنرال نحمان، جنود الاحتلال، رجال البوليشت والشاباك، أفيرام، عزرا يوسي، المحقّقين الذين تناوبوا على تعذيبي"(134).
حول فنّيّة الرواية
تمتدّ أحداث الرواية على مساحة زمنيّة طويلة تصل إلى ما يزيد عن خمسين سنة، منذ ولادة وليد المرتّل عام 1966 وحتى عودته إلى البلاد التي نزح عنها في منتصف ثمانينات القرن العشرين، أي نحو 1985، بعد أن لبث في الشتات ما يربو على ثلاثين عامًا. تتألّف الرواية من سبعة عشر فصلًا، تسبقها مقدّمة الكاتب، ويفصل بين هذه الفصول خمس وقفات تطول وتقصر وفق المشهد المصوّر فيها، إنّها وقفات يتحدّث فيها الكاتب عن لقاءاته بوليد المرتّل في أبو ظبي، يوضّح لقاءه الأوّل بوليد وطلبه أن يستمع لقصّته، أو يعبّر عن رأيه بوليد، و يوجّهه مرة أخرى، وقد يوجّه له نقدًا في بعضها الآخر، بذلك تشكّل هذه الوقفات فرصة لتجديد نَفَسِ الراوي السرديّ، كما تعمل على ترطيب جفاف السرد، وتنأى بالقارئ عن الملل ليعود إلى متابعة ما تبقّى من فصول الرواية، إضافة لتسليط الضوء على العلاقة بين الكاتب وبطل الرواية.
يلجأ الراوي إلى عدّة تقنيّات مكّنته من سرد أحداث رواية استغرقت كلّ تلك المدّة الزمنيّة الطويلة، ومن ذلك تقنيّة القفز الزمنيّ، إذ يقفز عن أحداث لا تضيف الكثير للرواية كالقفز عمّا جرى له خلال ما يزيد عن ثلاثين عامًا قضاها في منطقة الخليج، أو تقنيّة تفتيت الزمن من خلال تقنيّات عديدة كالاسترجاعات، التداعيات، الذكريات، ونحو ذلك، وقد صرّح الراوي لصديقه الكاتب بقوله: "وضعت الماضي بكلّ مرارته وتفاصيله أمام حاضر رخو بكلّ عبثه وجنونه، فمنذ لقائي الأوّل بك لم أستطع الفكاك من تداخل الأزمنة ولعنتها. نعم هو ببساطة مكرٌ في الأزمنة ودهشةُ التقاطعات التي تخلط الأحداثَ كيفما تشاء"(208).
تتوزّع عمليّة سرد أحداث الرواية بين الكاتب، وهو الراوي الأوّل الذي يستهلّ عمليّة السرد شارحًا علاقته ببطل الرواية وكيفيّة التعرّف إليه، لكنّه سرعان ما يتنازل عن مواصلة السرد ليلقيَ بالمهمّة على عاتق الراوي الحقيقي وصاحب الحكاية، وليد المرتّل؛ ليكون أكثر موضوعيّة، وربّما ليتحرّر من تبعيّة السرد ومسؤوليّته، وهو أسلوب معهود في السرد العربيّ القديم، وخاصّة في كتاب كليلة ودمنة، بذلك يؤدّي وليد أكثر من دور واحد، فهو بطل الرواية، وهو الراوي الرئيس لأحداثها، إضافة لمهمّة ثالثة يُنَصّب فيها نفسه ناقدًا لها، أو لسلوكيّات بعض الشخصيّات، ويتمثّل دورُه هذا في مواضعَ عديدةٍ من الرواية كمخاطبته الكاتب في رسالته الأخيرة له، وفيها يقول: "قد تسأل نفسك [...] لماذا اقتصر حديثه على علاقته بجدّه فقط؟ أين هي علاقاته الأخرى! أين هم أصدقاؤه؟ لماذا غابوا بهذا الشكل! [...] كيف كانت علاقتُه بأمّه التي لم يأتِ كثيرا على ذكرها! أين استقرّ المقام بفدوى(أخته) التي مرّت شفّافةً ورقيقةً بين السطور" (206)، لا يترك نقده معلّقا إنّما يعلل ما جاء فيه قائلًا: "لأنّني قرّرت منذ البداية أن أقشّر معك جانبًا واحدًا من حكايتي.. الجانب الذي ربطني دوما بجدّي، ربّما أردت أن يكون هذا السرد اعتذاري الأخير له"(206).
يحمّل الكاتب بطله، وليد المرتّل، ثقافة موسوعيّة أخّاذة، وهو أمر ليس بغريب على كلّ فلسطينيّ، فبعد فقدان البلاد لم يعد للفلسطينيّ من سلاح سوى علمه، وهي ظاهرة شائعة في صفوف الشعب الفلسطينيّ، وهذا ما أدهش الكاتب، صديق وليد الذي يقول: "في أحيان كثيرة يكون في أوج سرده، ثمّ يخطر بباله شيء ما؛ عنوان كتاب أو اسم مفكّر، أو حتّى مقولة ذائعة الصيت، فيتوقّف برهة، ثمّ ينعطف بالحديث لمسار آخر، تاركا تفاصيل الحكاية معلّقة في الهواء، ليكشف لي عن مثقّف من طراز رفيع"(101). تعتبر ثقافة وليد شاملة تجمع السياسة، التراث والأدب العربيّ، التاريخ والفلسفة والأدب العالميّ، فهو يقرأ تشيخوف، ديستويفسكي، وعمالقة الأدب الروسيّ، ويطالع أعمال غوتة، نيتشة، وماركيز، سرفانتس، فولتير، شكسبير، هوجو، كافكا وغيرهم، إضافة لاهتمامه بالأدب العبريّ، ودليل ذلك أنّه أخبر صديقه الكاتب في رسالته الأخيرة أنّ كتابه الأوّل حول تأمّلات في الأدب العبريّ قيد التحضير، وسوف يطلعه عليه(214). لا يكتفي الكاتب بذلك، إنّما يوظّف كثيرًا من المتناصّات والإشارات الثقافيّة في روايته، كذكر كتاب عاموس عوز عن الحبّ والظلام، مقاطع من شعر محمود درويش وناظم حكمت، حكم قديمة مختلفة، مقولات لغسّان كنفاني، لوركا، بسمارك، ممّا يشهد على ثقافة الكاتب الشاملة التي اكتسبها من الحضارتين الغربيّة والعربيّة.
تستعرض الرواية أحداثّا تاريخيّة كثيرة عربيّة وفلسطينيّة؛ لتؤكّدَ تارة وحشيّة المحتلّ، أو تدينَ مواقف الدول العربيّة تارة أخرى، و توضّحَ ما مرّ على الشعب الفلسطينيّ من مآس وعذابات أثقلت كاهله، ومن ذلك؛ حرب الأيّام الستّة، النكسة، الاجتياح الإسرائيليّ للبنان، معاهدة وادي عربة، اختطاف الباخرة الإيطاليّة "أكيلي لاورو"، الحرب العراقيّة الإيرانيّة، الاجتياح العراقيّ للكويت، حروب لبنان وغزّة، الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى والثانية، عمليّة فكّ الارتباط بين الأردن والضفّة الغربيّة، وغيرها، بذلك تبدو الرواية، في بعض مضامينها، سجلًّا يحفظ تاريخ المنطقة.
يعمد الكاتب إلى توظيف الموسيقى لأهداف كثيرة ومتنوّعة، منها تعزيز اليقظة الشعوريّة التي تصيب البطل وهو يتجوّل في مدينة القدس، مشنّفًا أذنه بأغاني فيروز، وفي ذلك يقول وليد: "حين تباغتني فيروز وهي تغنّي (مرّيت بالشوارع.... شوارع القدس العتيقة)، أُصاب، رغمًا عنّي، بقُشَعْريرةٍ لذيذة تجرّني بخيط شفّاف نحو تلك الزيارة الأولى على وجه الخصوص"(51)، وحين يستمع ديفيد، مدير فندق "شالوم هوتيل" إلى أمّ كلثوم وهي تغنّي رباعيّات الخيّام، يشرع وليد بدندنة الأغنية، فيدعوه ديفيد لمشاركته الاستماع للأغنية وهو يقول: "بُصّ يلا .. رباعيّات الخيام لوحدها، تستأهل عليها الستّ جائزة نوبل"(83). ممّا يؤكّد حبّ الفلسطينيّ للحياة رغم المصير القاسي الذي آل إليه.
هكذا تتآزر مضامينُ كثيرةٌ وتقنيّات فنيّة متنوِّعة لتقدّم للقارئ العربيّ رواية راقية تعزّز القضيّة الفلسطينيّة، وتؤسّس لانبعاثها من جديد في المدوّنة السرديّة العربيّة بعد أن خَفَتَ ضوءُها في السنوات الأخيرة، وكأنّها طائرُ الفينيق يحترق ليعود إلى الحياة من جديد. نقول هذا رغم ما في الرواية من إقحام لبعض المضامين التي تعمل على ترهّل النصّ، مثل حكاية صالح هيتو التي يفرد لها الكاتب فصلَا كاملًا، أو العودة لسرد حكاية موت والد وليد المرتّل بعد أن ورد ذكرها من قبل، فكأنّه يسعى بذلك إلى تخليد ذكره، أو المقدّمة التي يصدّر روايته بها، ولا ندري ما الإضافةُ التي تقدّمها مثل هذه المقدّمة للرواية، وقد كرّر معظم مضامينها في باب سمّاه "آخر ما حصل بيننا في أبوظبي" الذي ينهي به روايته، إضافةً لما يلاحظه القارئ من أخطاء وهفوات نحويّة كان بالإمكان تداركها لو تمّت مراجعة الرواية بدقّة.
د. محمد صفوري
*زياد أحمد محافظة روائيّ أردنيّ، ولد في الزرقاء 31/ 10/ 1971، يحمل شهادة بكالوريوس وماجستير في الإدارة العامّة من جامعة اليرموك، مقيم في أبوظبي – دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، ويعمل حاليًّا في وزارة شؤون الرئاسة هناك.. كتب في العديد من القضايا الفكريّة والأدبيّة. يحمل عضويّة رابطة الكتّاب الأردنيّين، وعضويّة منتسبة لاتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات. صدرت له عن دار الفارابي بلبنان رواية "بالأمس.. كنت هناك"، ورواية: "يوم خذلتني الفراشات" التي اختيرت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2012. كما صدرت له عن دار فضاءات للنشر بعمّان رواية "نزلاء العتمة"، التي صدرت طبعة خاصة منها بلغة بريل، ومجموعة قصصية بعنوان "أبي لا يجيد حراسة القصور"، ورواية "أنا وجدّي وأفيرام" 2015، ورواية "أفرهول" 2016، ورواية "حيث يسكن الجنرال" عام 2018.
(مداخلة الدّكتور محمد صفوري، في أمسية إشهار رواية أنا وجدِّي وأفيرام في نادي حيفا الثقافي 19-7-2018)
[email protected]