يعتبر دماغ الإنسان، أحد أبرز الألغاز العظيمة التي شغلت البشرية، وظل مجهول الهوية لآلاف السنين.
ومع تطور العلم، والبدء في اكتشاف الدماغ وأهميته، وبالرغم من فذاذة الإنسان مقارنةً بالحيوان، وجد أن البشر ليسوا الأحدث ولا الأكثر تطورا، فعلى سبيل المثال ظهر أكثر من 500 نوع جديد من الأسماك السمكية في بحيرة فيكتوريا (التي تعد إحدى البحيرات الإفريقية العظيمة)، منذ ملئت بالماء قبل حوالي 14500 سنة.
ومع ذلك، هناك شيء مميز عند الدماغ البشري، يجعل قدراته الإدراكية ومنطقها وطريقتها في الافتراض والتحليل تتفوق على جميع العقول الأخرى، فإذا كنا نحن الذين نضع الحيوانات الأخرى تحت الميكروسكوب فيبدو أن لدينا شيئا مختلفا.
الافتراض الأوضح، سيكون الكتلة الدماغية الأكبر، فإذا كان الدماغ هو الذي ينشئ الإدراك الواعي، فوجود المزيد من الدماغ يجب أن يعني المزيد من القدرات المعرفية، وهنا تنشأ "معضلة الفيل".
إذ يمتلك الفيل عقلا أكبر وأثقل وزنا من عقول البشر، ولكنه ليس مجهزا بسلوك معقد ومركب ومرن مثلنا، وأيضا فإن مقارنة حجم الدماغ مع القدرات الإدراكية يفترض مسبقا أن جميع العقول تعمل بنفس الطريقة، ولكننا نعرف أن جميع العقول لم تصنع بنفس الطريقة، فالرئيسيات ميزة واضحة على الثدييات الأخرى، والمحاور والتوصيلات العصبية المضافة للخلايا الدماغية فيها توجد بطريقة "اقتصادية" أو مميزة، لا تجعل هناك زيادة كبيرة في الحجم بالنسبة لمتوسط الخلايا العصبية في الثدييات الأخرى.
إذن فلنجرب فرضية أخرى، هل عدد الخلايا العصبية هو الذي يجعل الدماغ البشري مميزا بغض النظر عن الحجم والكتلة، فإذا كانت الخلايا العصبية هي ما يولد الإدراك الواعي فإن المزيد من الخلايا يعني المزيد من القدرات المعرفية، خاصةً أن الدراسات الحديثة تقول إن الاختلافات العقلية بين البشر والحيوانات الأخرى هي اختلافات في الدرجة، واختلافات كمية وليست نوعية.
لدى الفيل الإفريقي بالفعل ثلاثة أضعاف وزن أدمغتنا البشرية، وفي البحث الذي نشر في مطبوعات ماساتشوستس أوردت عالمة الأعصاب البرازيلية سوزانا هيل قصتها مع دماغ الفيلة، إذ أنفقت وقتا ومالا كثيرا لتشريح دماغ الفيل الإفريقي، وكانت فرضيتها أن دماغ الإنسان يحتوي على عدد أكبر من الخلايا العصبية بالنسبة للفيل، حتى ولو كان الأخير أكبر حجماً ووزنا.
وقد استخدمت سوزانا أدوات تشريحية لتأخذ مقاطع عرضية من دماغ الفيل من مناطق مختلفة، وتقوم بمقارنتها مع دماغ الإنسان، وقامت بتجزئة العينات لشرائح أصغر لمعالجتها وتحليلها خلال 6 أشهر من العمل المستمر، وبمساعدة عدد من الطلاب الجامعيين في جامعة ريو دي جانيرو، التي تعمل رئيسا لمعمل التشريح المقارن بكلية علوم الطب الحيوي بها.
من الفائز؟
كانت النتيجة مفاجئة ، فالفيل الإفريقي يمتلك عددا أكبر من الخلايا العصبية من الدماغ البشري، وليس فقط عددا أكبر بل ثلاثة أضعاف عدد الخلايا العصبية، ويقدر عدد خلايا الفيل العصبية في الدماغ بحوالي 157 مليار خلية، بينما عند الإنسان 86 مليار خلية عصبية فقط، وقد كان الفارق مذهلا وضخما للغاية.
ولكن هناك ملاحظة مهمة تشرح لماذا يتفوق الإنسان على الفيل في القدرات العقلية، رغم أن الحجم والوزن وحتى عدد خلايا الدماغ العصبية للفيل أكثر بثلاثة أضعاف نظيرتها لدى الإنسان!
وجد البحث أن نسبة هائلة من الخلايا العصبية للفيل (تصل لـ98%) موجودة في المخيخ في الجزء الخلفي من الدماغ، ويشبه هذا كثيرا من الثدييات الأخرى التي تشبه الفيل في تركّز الخلايا في المخيخ الخلفي، ولا تترك إلا نسبة ضئيلة تقدر بـ5.6 مليار خلية عصبية في القشرة الدماغية، رغم أن حجمها في الفيل أكبر من حجمها في الإنسان.
صارت الإجابة واضحة الآن، ليس في الدماغ البشري عدد خلايا عصبية أكبر من الفيل، ولكن القشرة الدماغية البشرية لديها ما يقارب ثلاثة أضعاف عدد الخلايا العصبية للفيل في قشرته الدماغية، وكان هذا هو الدليل على أن القدرات الإدراكية والعقلية للدماغ البشري المتفوقة على الفيل، يمكن أن تعزى ببساطة إلى عدد كبير من الخلايا العصبية في قشرة الدماغ البشرية.
[email protected]