ما أن حطت عجلات الطائرة أرض مطار اللد وقبل أن تدوس أقدامنا الأرض، حتى علمنا بالخبر المفجع برحيل زميلة وصديقة وأخت عزيزة، المستشارة التربوية فاتن كركبي – أبو حنا (أم فراس). كيف لا أفجع بخبر كهذا وقد كان مفاجئا والموت ليس في أوانه، وكأني أتلقى خبر موت انسان عزيز لأول مرة، رغم كثرة وامتداد خط أخبار نعي الأعزاء علينا، وقد أصابني ما أصاب المتنبي حين قال:
كأنّ الموتَ لم يفجَع بنفسٍ ولم يخطر لمخلوقٍ ببالِ
عزيزتي فاتن.. عندما حملت نعشك مشاركا جمع المشيعين، أو لما نظرت اليه طويلا مودعا غير مصدق، راجعت مسيرة سنوات طويلة مشتركة في العمل التربوي في مدرستنا الاعدادية، كنت فيها أكثر من مستشارة تربوية، لأنك كنت في الحقيقة من بناة ومؤسسي تلك المدرسة في بداية تكونها وأولى سنوات نموها، فكنت فعلا أحد أعمدتها التي رفعت من شأنها وأسهمت في نقاء سمعتها، فدعت الأهل لأن يطمئنوا لأبنائهم في كنفها، خاصة وأنت الى جانبهم ترافقينهم وترشيدنهم وتوجهينهم وتعاملينهم كأم رؤوم عطوف. نعم
شاهدتك وكنت شاهدا على ما تفعلينه وتقدمينه لمدرستك وطلابها، من جهد وتفان تعدى حدود الوظيفة والراتب، ولم تأبهي للتأخر في العمل ولم تنظري للساعة، وكأن المدرسة كانت بيتك والطلاب أبناءك، فما تأخرت يوما عن خدمتهم والوقوف الى جانبهم بكل تفان واخلاص.
أما جمهور المعلمين والمعلمات والتي كنت بمثابة أخت عزيزة لهم، تقلقين لقلقهم وتحملين عنهم بعض الهموم، وتقدمين المساعدة لهم حيث يجب بكل رقة وعطف الأخت على أختها أو أخيها، كان لهم نصيب وفير من عطائك. أجل، لم تقصري يوما مع أي منّا، كنت أختا ومستشارة وداعمة لنا، بل كثيرا ما لجأنا اليك كمربين لنسمع رأيك ونأخذ به، أو نراك تتدخلين في اللحظة المطلوبة عندما تشعرين بالحاجة الى ذلك دون أن نطلب منك، فكنت تتحسسين ضائقتنا أو حاجتنا للكلام والمشورة ولم نعرف حينها أهمية سلوكك تجاهنا، ربما.
نعم راجعت شريط الذكريات ومسيرة السنوات التي سرناها في المدرسة، بأيامها الصعبة وتحدياتها، بأيامها الحلوة وحكاياتها. عرفت كيف تتعاملين مع كل معلم ومعلمة بفروقاتنا الفردية، وتوجهاتنا المختلفة وطباعنا المتنوعة. أجدت الخروج بنا ومعنا من مواقف محرجة ومآزق انسانية. أبدعت في كيفية اعادة الاعتبار الى كل انسان رافقك وجعلتيه يخرج راضيا من قرارك. وما أظن شاعر العرب الأول المتنبي إلا ويقصدك، وأنا أراجع معه محطات من مسيرة عطائك الحافلة:
سقى مثواكِ غادٍ، في الغوادي نظيرُ نوالِ كفّكِ، في النّوالِ
ستبقى ذكراك يا فاتن، ترافقنا طول المدى لأن مثلك لا يمكن أن يطويه الزمان بسرعة أو يمحوه من الذاكرة. ويبقى عزاؤنا في سيرتك ومسيرتك، في عطائك اللامحدود وتفانيك في خدمة من حولك، في دفاعك عن حقوق الطالب وتمسكك بكرامة المربي والمعلم، في رفع اسم المدرسة والتمسك بالأنظمة وضبط الأمور.
فاتن.. اسمحي لي أن أجيز لنفسي وأذكر في هذا المقام، مدى اعتزازك ومحبتك لوالدك المرحوم المربي الفاضل والكاتب القدير المرحوم الأستاذ قيصر كركبي، ولا شك أنه كان يحبك محبة نادرة ويعتز بك وبما وصلت اليه ولا أشك للحظة أنه ما كان ليتردد في هذا المقام من القول صادقا:
ولو كان النساءُ كمن فقدنا لفُضّلتِ النّساءُ على الرجالِ
فالى والدتك السيدة نلي والى أبنائك وزوجك الدكتور منهل وأخويك الصديقين الدكتور لطف والمحامي راوي والى العائلة الكريمة والى أسرتك التربوية في "مدرسة عاطف خطيب الاعدادية" وزملائك الذين خرجوا أحياء منها وأنا منهم، والى طلابك الذين يعدون بالآلاف.. نشارك بعضنا البعض اليوم بمشاعر المواساة علنا نقلل من حزننا عليك ونخفف من هول الفاجعة التي أصابتنا بك، ولتبق ذكراك مؤبدة.
(شفاعمرو)
[email protected]