**ثلاث قرى..
حتى كتابة هذه السطور هناك 1206 قتلى منذ سنة 2000 حتى اليوم. أي خلال 17 سنة أو أقل. للتوضيح: هناك قرى بكاملها لا يتعدى سكانها 1206 أشخاص. على سبيل المثال رمانة (1100 نسمة) وأم القطف (1000 نسمة) وغيرهما. العدد 1206 يعادل تعداد سكان ثلاث قرى كاملة مثل قرية ضميدة الجليلية!! سلامتهم وسلامة جميع أهلنا وبلداتنا. فهل نبالغ اذا قلنا انها قد تكون "ابادة جماعية" بطيئة؟
**تثقيف! تثقيف!
هناك حاجة ماسة وضرورية لتثقيف الناس، على ان تنشئة جيل جديد ليس بالأمر الصعب ولا يستهلك تلك الطاقة التي تستنزف كلا منا في يومياته. لو كنا بدأنا منذ بدأ احصاء القتلى (وحقيقة لا أعرف لماذا تتركز الاحصائيات من سنة 2000 وليس قبل، مع ادراكي بأن العنف بدأ يتفاقم منذها)، لكان لدينا اليوم جيل جديد سيخرج السنة المقبلة الى الحياة الجامعية أو العمل ويؤسس لاحقا بيوتا واثقة وأمينة وآمنة تعيش بسلام مع نفسها ومع الذين يحيطونها.
أثارتني مقالة عضو الكنيست د. يوسف جبارين في ملحق "الاتحاد"، يوم الجمعة 9 حزيران 2017، والتي تناولت " أفكارًا وتوصيات للمساهمة بالنقاش حول مواجهة العنف والجريمة".
وأثارني أكثر، سؤال د. يوسف جبارين: هل وصلنا الى حالة "حرب أهلية" فعلا في مجتمعنا خاصة مع الانتقال الخطير من العنف المجتمعي الى الجريمة المنظمة في العديد من بلداتنا العربية؟
لن أتطرق الى السؤال المطروح، والذي باعتقادي هو استنكاري أكثر مما هو استفهامي، ولكني أقول ان الحديث يجري الآن عما هو أكثر من ذلك.
لن يتفق معي البعض وسنختلف بالآراء. ولكني أومن وبكل تأكيد، بأن هذا الأمر لن يفسد للود قضية، خاصة واننا في وضع نرى فيه ان الاختلاف في الرأي لم يعد "يفسد للود قضية" وانما صار يؤدي الى نتائج كارثية (ولنضف "أحيانا" للتخفيف).
لنرى..
لنبدأ أولا بالاتفاق على أن العنف، هو كل فعل يهدف الى ايذاء الآخر انسانا كان أم حيوانا أو جمادا. العنف لا يمكن تجزئته. بين الاعتداء على الملك العام وتلويث البيئة وبين الاعتداء على الانسان، هناك رابط وعلاقة مباشرة.
اتفقنا؟ حسنا..
لنتفق ثانيا أن كل ايذاء هو عنف بغض النظر عن الجهة التي تستعمله وبغض النظر عن الظروف التي تدفعها لذلك.
وهنا سنتفق أيضا مع بعض التحفّظ.
لنتفق أيضا أن لجوء الضحية الى القوة للدفاع عن النفس هو عنف، بغض النظر عن شرعيته. فالعنف هو عنف وهذا التقسيم لعنف مشروع وعنف غير مشروع، هو فلسفي لا أكثر.
وهنا لن نتفق!
وهذا شرعي وطبيعي.
ولكني سأخفف حدة النقاش (أو الانفعال) بالقول، ان هناك امكانية ومساحة مختلفة لتفهم كل سلوك ولتدريج شرعيته حسب الظروف. واذا ارتأينا السماح لبعضه، فليكن. ولكنه يبقى عنفا حتى ولو افتينا باجازته وشرعيته ودعمنا استمراريته.
اضافة لذلك، فاننا بدون شك سنتفق، بأن هذا الكلام لا اجماع عليه، ويبقى متأثرا بفكر وتوجه فلسفي وانتماء قومي ووطني وسياسي والخ.. وبأن ما نراه من هنا، ليس بالضرورة الذي يراه الآخرون من هناك. والعنف الشرعي من هنا، ليس بالضرورة شرعيا من هناك.
**كيف يظهر السلوك العنيف, والسلوك بشكل عام؟
لن أتطرق الى توجهات ونظريات ومدارس علم النفس المختلفة وتفسيرها للعنف، لأني شخصيا لا أراه عمليا ولن يثري النقاش حول الموضوع هنا، وسيبقى ضمن النقاشات الاكاديمية لا أكثر. ولكن بودي التأكيد على قانونين أساسيين في علم النفس يفسران ظهور كل سلوك، وبطبيعة الحال السلوك العنيف:
- قانون التقليد والاقتداء: أي أن الصغير يقلد سلوك الكبير أو كليهما يقلدان السلوك الذي يشاهدانه ببث حي ومباشر أو في وسائل الاعلام أوالافلام والخ..
- قانون التعزيز: أي أن كل سلوك يحقق الهدف ويؤدي المهمة يتعزز ويذوّت ويصبح جزءا نشطا وفعالا، من منظومة دفاعات الفرد النفسية في حالات الضغط أو الاحباط. وليس فقط. فأحيانا يلجأ الفرد الى ابراز الذات الرجولية أمام مجموعة من المتفرجين، الذين يشبعون حاجاته الغريزية والنرجسية بالتصفيق وال"واااو" والخ وهذا يعزز من سلوكه أكثر.
هناك أيضا توجه ثالث لشرح السلوك العنيف. هذا التوجه يكمن في التفسيرات الخاطئة التي يعطيها الفرد لأحداث تجري حوله أو معه. على سبيل المثال: عندما لا يعطي أحدهم (ولنشر اليه بالحرف "أ") حق الأولوية بالمرور لمن يستحقها (ولنشر اليه بالحرف "ب").
للتوضيح: "أ" مرّ بسرعة أمام "ب" ولم يعطه حق الأولوية.
"ب" يفسر سلوك "أ" على أنه اهانة له، واستفزاز وتقليل من احترامه، أو مسّا بكرامته أو أنه "شوفة نفس". فيكون الشعور الداخلي والطبيعي في هذه الحالة لدى"ب"، استمرارا لتفسيره هذا (وليس على سلوك "أ") غضبا، ويردّ بشكل عنيف بأن يزيد من سرعته أو يضيق عليه الدرب أو أن ينزل من سيارته حاملا عصاه. وفي حالات أخرى يرفع مسدسه.
بتصير؟
طبعا.. وكل يوم. ومن منكم لم يشاهد هذا "الفيلم"؟
تفسير آخر: "ب" يفسر سلوك "أ" بأن هذا الشخص مسرع لأسبابه الخاصة والتي لا تتعلق بـ "ب" بالمرة. أو ربما هو مهوَّس أو أنه غضب من مديره في العمل أو الخ.بكلمات أخرى، هذه مشكلة "أ" ولا دخل لأي شخص آخر بها والأمر لا يتعلق بتاتا بـ "ب". عندها سيشعر الشخص "ب" بشعوره العادي الذي شعره قبل هذه الحادثة، وسيردّ بطبيعة الحال بشكل يلائم هذا التفسير. وبالتأكيد لن يسحب عصاه أو يرفع مسدسه وستجري الأمور كما هي بسلام.
التفسير السلبي لسلوك الآخرين هو عابر للشهادة العلمية وللموقع الاجتماعي وللجنس وللثقافات. هذا الـ "فيروس" ممكن أن يصيب كل انسان. ولكنه كلما كانت درجة الوعي والنضج النفسي والثقة بالنفس أكبر، كلما كانت مناعة الفرد لهذا الفيروس أقوى.
هاكم مثلا وزيرة الثقافة ميري ريغف التي ابدت معارضتها لتقديم ميرا عوض أغنية "فكر بغيرك" للشاعر محمود درويش لأن، ما أثار الوزيرة هو اعتبارها اختيار الفنانة المذكورة لهذه الأغنية استفزازا! (الاتحاد 12 حزيران 2017). اذا كان التفسير لهذا الاختيار لميرا عوض هو استفزاز للوزيرة ريغف، فانها بدون شك ستشعر بالغضب وستعارض الأمر.
وطبعا، بامكان الوزيرة، لو توفرت الشروط المذكورة أعلاه، تفسير هذا الاختيار بأشكال أخرى أكثر نضجا ومسؤولية، وعندها ردّة فعلها كانت ستختلف.
من هذا المنطلق فان تجاهل ابداع الآخرين، أو عدم تقديم الاطراء وقت التألق أو المباركة بعد القيام بعمل حسن، هو عنف أيضا. وينتج أساسا من ادراك خاطئ لدى هؤلاء الأشخاص بأن الاطراء للآخر وابداء الاعجاب بعمله، سيأتي على حسابهم وسينتقص من قدرهم ويقلل من احترامهم وابداعهم.
ولكن من منطلق تفكير آخر، فإن آخرين يعتبرون ابرازهم لإبداعات الآخرين، قوة. يرفع من شأنهم هم ومن شأن من امتدحوهم. وهذا عادة ما يميز الأشخاص الواثقين بأنفسهم وبقدراتهم.
اذا.. التفكير مهم. وكلما كانت الثقة بالنفس أكبر، كلما كان التفسير الذهني والتفكير أنقى ولا يتأثر بالرياح التي تجري خارجا.
للخلاصة: إبحث عن شخص متزعزع الثقة وراء كل ضربة عصا!
تحدثنا عن التقليد والتعزيز والفهم الخاطئ. لنوجز ونقول ان العنف هو لغة يلجأ اليها الفرد للتعبير حينما لا تتوفر لديه امكانيات أخرى.
العنف هو لغة.. وقلنا انه لغة الأشخاض ذوي الثقة المهتزة.
على سيرة اللغة والتقليد والتنفيذ (السلوك) أيضا:
سأضرب لكم بعض الأمثال التي نستعملها يوميا أو نسمعها أو يتربّى عليها أطفالنا. نعم سأضرب هذه الأمثال مع انه باستطاعتي الاتيان بها بدل ضربها.
"ان لم تكن ذئبا اكلتك الذئاب"
"بتغدا/ى فيه قبل ما يتعشى فيّ"
"العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم"
"مئة أم تبكي ولا أمي تبكي"
وهناك أيضا تعابير مثل "محاربة" العنف و"قتل الوقت" و"تحطيم الأسعار" وغيرها...
هذه لغة يسمعها الأطفال وفي حالة تكرارها يتم تسجيلها في ذاكرتهم وفي دماغهم العاطفي ومن هناك تصل للقشرة الدماغية بواسطة تواصلات عصبية خاصة. بالقشرة الدماغية تبدأ بالتأثير على الوظائف الذهنية العليا المتمركزة فيها.
مشاهدة العنف والتعرض له كلاميا وفعليا، تولد الخوف وتحفز غدة الأميغدالا في الدماغ الليمبي العاطفي على افراز هورمون الكورتيزول. كثرة هذا الهورمون في الدماغ يؤدي الى تشوش في عملية التعلم والتركيز والقدرات الذهنية الأخرى مثل التذكر والتفكير والتخطيط، وتقوم بتدمير خلايا الدماغ والنتائج واضحة تعليميا ونفسيا واجتماعيا وسلوكيا.
ما الحل اذا؟
هناك اقتراح مكون من جزءين لمعالجة العنف وتنمية سلوكيات سليمة، أحدهما على المدى القصير والآخر للمدى البعيد. يجب أن تتركز الجهود من أجل تنفيذهما بشكل متواز وبنفس الوقت. هذا الاقتراح يحتاج الى تدخل شمولي والى رؤية واسعة لمنظومة مركبة من عدة حلقات يجب تفعيلها كلها من أجل الوصول للهدف:
- التوعية بشكل عام :
رفع الوعي لأمور صغيرة أصبحت عادة يقوم بها الناس بشكل مستمر بدون ادراك تأثيرها على منسوب العنف.
انتبهوا مثلا الى المفردات والتعابير التي يستعملها الناس. انتبهوا الى اللهجة والنبرة التي يستعملها بعض خطباء السياسة ورجال الدين. انتبهوا الى اللغة التي يستعملها الكبار حين تقع مشكلة ما ويتدخلون لحلها. كم هي نبرة هادئة وسلسة وكم هي نبرة حادة توجه كالسهام أو كالرصاص الى المستمعين.
هنا التوعية مهمة. وليقرر الخطباء اذا كان بمقدورهم تغيير مفرداتهم ونبرتهم. ولكن لا يمكن أن تدعو للسلام بالعنف. لا يمكن!
في السياسة ربما هناك حاجة لامتصاص غضب الجماهير وهذه هي طريقة جيدة. ولكن يجب أن يأتي بعدها مباشرة الدور القيادي ومرافقة الناس بهدوء وسلام ومحبة الى الطريق الذي يبغيه القائد.
لا يمكن دعوة الناس الى السلام والمحبة ومعونة الغير الا بنبرة هادئة تدخل القلب والعقل بهدوء وبدون استئذان.
لا يمكن دعوة الناس الى المحبة والسلام عبر التحريض على نفي اللآخر.. كل آخر.. وتكفيره والدعوة عليه بالموت والعذاب والخ..
- العلاج بدل التوعية:
توعية جمهور تعوّد على العنف كتقليد وكسلوك يحقق أهدافه بسهولة ويعطي "مكانة" اجتماعية وقيادية عند شرائح معينة، هو أمر صعب المنال لأنه يُجرّد هؤلاء الأشخاص من كل سلاحهم أو بالأحرى من كل ما يملكون. كنت لأبدل التوعية بالعلاج.
نعم، هناك حاجة لعلاج نفسي وسلوكي فردي وجماعي للأشخاص العنيفين.
هل نستطيع هذا؟
الأمر يحتاج لكوادر مهنية متخصصة والتركيز على علاج الأشخاص العنيفين من أجل تغيير سلوكهم وتبني سلوك أكثر تسامحا يحتاج الى توجه شمولي وتدخل عدة اختصاصات والى طاقات هائلة. لكن اذا تواجدت نقطة انطلاق سنحدد نقطة النهاية.
- تنفيذ القانون والعقاب:
وهنا توجد حاجة لتفعيل الضغط على الجهات المسؤولة للقيام بواجبها.هناك أيضا الضغط الجماعي والعقاب الاجتماعي. وخاصة حين نتحدث عن مجتمع يتميز بتقديس المجموعة ان كانت عائلية او حمائلية أو دينية أو بلدية أو جغرافية وغيرها.
نعم، على قيادات أطياف المجتمع العربي اتخاذ موقف واضح هل هي مع العنف أم ضده. ويجب أن تكون متابعة ومطالبة لها بالالتزام بموقفها فعلا اذا كانت ضد، واجراء حوار معها في حالة كانت هناك حاجة.
لنعد الى البداية ومن ثم اورد اقتراحي لبرنامج للمدى البعيد.
حتى كتابة هذه السطور هناك 1206 قتلى منذ سنة 2000 حتى اليوم. أي خلال 17 سنة أو أقل.
للتوضيح: هناك قرى بكاملها لا يتعدى سكانها 1206 أشخاص. على سبيل المثال رمانة (1100 نسمة) وأم القطف (1000 نسمة) وغيرهما.
العدد 1206 يعادل تعداد سكان ثلاث قرى كاملة مثل قرية ضميدة الجليلية!!
سلامتهم وسلامة جميع أهلنا وبلداتنا.
اذًا.. هل هي "حرب أهلية" كما تساءل د. يوسف جبارين في بداية مقالته المذكورة؟
هل نبالغ اذا قلنا انها قد تكون "ابادة جماعية" بطيئة؟
واذا نظرنا الى الشباب المهاجر الفعلي الذي يقطن خارج البلاد بعد أن رأى فيها ملاذا وأمانا، و"المهاجر المخفي" الذي لم "يحالفه الحظ" ولكنه يعيش غريبا ومغتربا في وطنه، لكانت الصورة أخطر بكثير.
اذا فكرنا بالآلاف أو عشرات الآلاف من الضحايا الذين يدورون في فلك العنف: أيتام وأرامل ومعاقون للأبد. صدمات نفسية ومخاوف ومن جرائها تدهور تعليمي وسلوكي ودخول العديد من الضحايا في حلقة العنف كضحايا.. أصبحوا مجرمين!!
اذا تخيلنا عدد الطموحات والأحلام التي تُقتل كل يوم في هذا الجو العنيف..
السؤال: هل نريد أو هل نحن حاضرون لرؤية هذه الحقيقة؟
هل نحن مستعدون لاجراء حساب نفس ذاتي، لنا ومن أجلنا وبواسطتنا نحن وبدون تدخل جهات خارجية؟
هل نحن مستعدون للتفكير بدور كل واحد منا في تفاقم الوضع الى هذا المستوى، وامكانيات كل منا في التخفيف منه؟
**الحل للمدى الطويل:
أدعو الى تنشئة جيل جديد ينمو على لغة جديدة. لغة المحبة والتسامح والاطراء للغير والتعبير عن النفس وتنمية الثقة بالنفس.
"وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه" (مع الشكر للصديق أسعد موسى عودة).
وهذا اذا يبدأ من البيت أولا. ومن ثم المدرسة.
يعني خلال 15 – 20 سنة نستطيع خلق جيل جديد!
كيف؟
أولا الصبر وثم الصبر وثم الصبر، مع تفهمي "للبصلة المحروقة" عند بعضنا!
الدوبامين بدل الكورتيزول أو الحب بدل الخوف.
كل لمسة وكل ابتسامة وكل عناق وكل نظرة دافئة وكل كلمة هادئة تساعد الدماغ على افراز هورمونات السعادة والحب. هذه الهورمونات تنتقل الى القشرة الدماغية عبر تواصلات عصبية تبنى خصيصا بعد الولادة وفي الطفولة المبكرة. هذه التواصلات العصبية، كلما ازدادت تفرعا أثرت أيجابا على تطور الدماغ، وعلى القدرات الذهنية بمجملها. انها تؤثر أيضا على الحالة الانفعالية والعاطفية، وترفع الثقة بالنفس وتزيد من قدرات الفرد وامكانياته لمواجهة الحالات الضاغطة والاحباطات.
اللغة هي تفكير وهي سلوك: يجب حتلنة قاموس المفاهيم والمصطلحات التي نستعملها في حياتنا اليومية. التوجه الايجابي والتفاؤل بالإمكان زرعه في الطفل خلال نموه. وأقصد باللغة، جميع مركباتها : الكلمة المنطوقة والنبرة التي تُنطق بها ولغة الجسم والنظرة والخ.. اللغة مرتبطة ارتباطا مباشرا ووثيقا بالتفكير وكلما كان التفكير سليما كان السلوك كذلك. سبق وأوضحنا هذه النقطة أعلاه.
التقليل من الانكشاف لحالات العنف والدمار في البيت والحي ووسائل الاعلام والافلام ونشرات الأخبار. كنت قد أرفقت بعض الصور في احدى محاضراتي، من أحد المواقع الالكترونية واسع الانتشار في الشارع العربي. من37 خبرا كانت نسبة الأخبار العنيفة 33. قتل وسطو وضرب سكاكين واطلاق نار وحوادث طرق واغتصاب والخ.. بامكانكم اليوم أيضا اجراء مسح كهذا وسترون هذا الأمر. هل نريد لطفلنا أن ينكشف لهذه الأمور؟ وحتى ان لم يقم بالاقتداء بها، فان تكرارها حتما سيفتح مسارات عصبية خاصة وسيتم تسجيلها في الدماغ وسيتعود عليها وستصبح جزءا من تفكيره وطرق مواجهته وسلوكياته وحياته. فبين المشاهدة والممارسة المسافة قصيرة، وبطبيعة الحال سنرى نتائجها لاحقا.
السلوك الاصراري بدل القمع : تعويد الطفل على التعبير عن نفسه وعن أفكاره وآرائه وأحاسيسه بدون شروط. علينا أن نعطي الطفل الأمان عندما يكون عنده رأي مختلف عن رأينا. التقبّل لا يجب أن يكون مرتبطا بأي سلوك أو رأي. يحق للطفل ولكل واحد منا أن يكون مختلفا وأن يعبر عن شعور مختلف وأن يبقى مقبولا.
بكلمات أخرى بدل "بطلت أحبك لأنك سويت كذا"، سنقول "سأبقى أحبك على الرغم من عدم رضاي أو موافقتي على سلوكك هذا". فصل الانسان عن سلوكه سيعطيه الامكانية لتعديله.
الامتناع عن الحكم على رأي الآخر بأنه صحيح أو غير صحيح وهلمجرا.. يعني كما قال لي أحد الأكاديميين المخضرمين مرة، في حلقة نقاش حول موضوع مهني، بأنني "أتكلم كلاما فارغا". كان من الطبيعي أن أرد عليه بهدوء، بأنه يقصد أنه يعارض رأيي أو لا يتفق عما أقول أو الخ.. لحسن الحظ انه أدرك خطأه بسرعة وصحح نفسه. واستمر النقاش بشكل راقٍ بدون ابطال الآخر. على جميع الأحوال، معارضة رأي الآخر تفتح الطريق أمام ابداء رأي مختلف وبديل. وهذا شرط أساسي للتطور والتقدم بالفكر وبالعمل.
هذه بعض مبادئ السلوك الاصراري، الذي هو أسلوب بديل وجيد لتنمية الثقة بالنفس، ولجعل العلاقات مع الآخرين مبنية على الصراحة والاحترام المتبادل، وليست على الانتهازية واستغلال الآخرين، الذي ممكن أن يتفاقم ليصبح عنفا. لن أتوسع بهذا الموضوع حتى لا أثقل على القارئ أكثر، وربما اذا اقتضته الحاجة نخصص له مقالا منفصلا.
لنلخص ونقول بأن هناك حاجة ماسة وضرورية لتثقيف الناس، على ان تنشئة جيل جديد ليس بالأمر الصعب ولا يستهلك تلك الطاقة التي تستنزف كلا منا في يومياته. لو كنا بدأنا منذ بدأ احصاء القتلى (وحقيقة لا أعرف لماذا تتركز الاحصائيات من سنة 2000 وليس قبل، مع ادراكي بأن العنف بدأ يتفاقم منذها)، لكان لدينا اليوم جيل جديد سيخرج السنة المقبلة الى الحياة الجامعية أو العمل ويؤسس لاحقا بيوتا واثقة وأمينة وآمنة تعيش بسلام مع نفسها ومع الذين يحيطونها.
انشغالنا بالظاهرة لن يؤتي ثماره الا بتفعيل الضغط الاجتماعي والتوقيع أخلاقيا على وثيقة تنبذ العنف. وهذا يعني في كل مجالات الحياة. اذ لا يمكن أن تدعو للتسامح وبنفس الوقت تمارس عكسه.
تحدثنا في البداية عن التقليد والاقتداء.
لنكن قدوة!
فقط في حالة احترامنا لذواتنا ولحياتنا وفقط في حالة وقوفنا بقوة في مواجهة كل جريمة، بغض النظر عن الجهة الفاعلة، فقط عندها سنعلّم الآخرين، كل الآخرين، بأن دمنا ليس رخيصا.
[email protected]