لم يتسن لي قراءة كتاب زوجة القائد العربي الخالد جمال عبد الناصر، السيدة تحية عبد الناصر "ذكريات معه"* كاملا، قبل أن أعثر عليه في مكتبة "دار الشروق" في عمان الشهر الماضي، بعدما كنت على اطلاع على فصول منه، عبر موقع "الفكر القومي العربي".
جاء على الغلاف الأخير في كلمة للناشر أن " تحية عبد الناصر حاولت كتابة مذكراتها مرتين، الأولى في حياته، والثانية بعد رحيله، لكنها لم تقو على المواصلة فمزقت ما خطت يدها، حتى كانت المحاولة الثالثة في الذكرى الثالثة لرحيل الرئيس كما كانت تسميه، فكتبت بخط يدها". وتعترف السيدة تحية انها بدأت بكتابة سيرتها مع عبد الناصر في ايام الوحدة عام 1959 ولم يمانع عبد الناصر بذلك، لكنها عادت ومزقت الأوراق وايضا لم يعترض عبد الناصر وترك لها حرية الخيار. وبعد عامين على رحيله أعادت الكرة ثانية ومرة أخرى تراجعت، لكنها صممت في الذكرى الثالثة ونفذت الأمر خاصة وأنها تذكرت أن زوجها شجعها على ذلك، وقالت " اني أرى هذه التحية لجمال عبد الناصر..وكل ما ألاقيه من تقدير فهو له".
امرأة بسيطة تتحدث بلغة بسيطة عن رجل عظيم ببساطته
وكان لا بد وأن أندفع بقراءة السيرة التي خطتها السيدة تحية بيدها عن زوجها وقائد الأمة العربية لعقدين من الزمن، وجاءت لغة الكتاب سلسة، بسيطة، وكأنك تستمع للسيدة تحية تحدثك عن زوجها منذ أن تعرفت عليه وتقدمه لخطبتها وزواجهما وفيما بعد انجاب الأولاد، تحدثت عنه كمحب وزوج وأب وجد، وتحدثت عن مرافقتها له وملازمته له في السراء والضراء كزوجة وأم وامرأة تقف الى جانب زوجها دون اعتراض أو مناقشة، حتى عندما أخفى عنها المعلومات المهمة وخاصة في فترة الاعداد لثورة 23 يوليو، حيث كانت ترى وتسمع وتستلم رسائل الضباط، بل كانت تخفي المنشورات والسلاح في غرفة نومهما دون أن تسأل أو تعترض، لم تعرف عن أمر الثورة شيئا حيث نجح عبد الناصر باخفاء المعلومات عنها وتمويه الحقائق، حيث كانت تصدقه عندما يخبرها أنه يلتقي بزملائه لاعداد امتحان الكلية العسكرية وتصليح أوراق الطلاب، وحتى عندما ساورتها المخاوف والشكوك لم تفاتحه بالموضوع، بل بقيت متكتمة وداعمة لزوجها في كل خطواته.
ومنذ السنوات الأولى للتحضير للثورة كانت تتم اللقاءات معظمها في بيت عبد الناصر وعلى حساب راحته وأسرته، حيث كانت تتم بسرية تامة وفي مواعيد متواترة، وتقول السيدة تحية عن ذلك " كان يدخل حجرة النوم ليستريح بعد الغداء لكنه قلما كان يبقى في السرير أكثر من دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر.. ويخبط الباب ويدخل زائر الصالون فيقوم ويقابل الضيف، وبعد انصرافه يرجع الحجرة ثم يحضر ضيف آخر وهكذا. وأحيانا يخرج بعد تناوله الغداء مباشرة ثم يرجع البيت، ويحضر ضيف ثم يخرج مرة ثانية إما مع الضيف وإما بمفرده بعد انصراف الضيف". (ص 20)
حركة متزايدة في البيت والزوجة آخر من يعلم بالثورة
وتنقل لنا السيدة تحية أجواء الأسابيع القليلة قبل الثورة، التي مرت عليها في بيتها ومتابعة عبد الناصر لكل التفاصيل الى جانب التزاماته نحو واجباته البيتية وخاصة تجاه أبنائه ورعايتهم، ومرافقة زوجته الى دار السينما التي كانا يترددان اليها كثيرا، " وكان لا ينسى أبدا أعياد ميلاد أطفاله رغم انشغاله الزائد وإهدائه لهم اللعب" (ص 54)
لكن الحركة تزداد في البيت، وتحية لا تدري أن موعد الثورة يقترب، لكنها تصف لنا ما يمر عليها في تلك الأيام، وعما يمر على بيتها فتقول: "الزوار..ازدادت الحركة في البيت كثيرا جدا.. ومنهم من يحضر قبل وصول جمال مباشرة يعني وقت خروجه من الشغل، وينتظرونه حتى يحضر.. ويتكلم معهم وينصرفون". (ص 53)
أما أصعب اللحظات كانت ليلة الثورة وجمال يودع ابناءه وهو يلاطفهم ويلاعبهم ويقبلهم وكأنه لن يراهم ثانية. لكن الثورة نجحت وكانت فرحة تحية كبيرة، لكنها لم تر جمال ولم يعد الى البيت الا بعد أيام على نجاح الثورة، وبعدها لم تعد تراه بانتظام ولم يحضر الى البيت الا قليلا حيث كان يقوم بمعظم الأعباء والمسؤوليات. وانتقلت العائلة الى المنزل الجديد في منشية البكري يوم 20/10/1952 وبقيت فيه حتى وفاة عبد الناصر.
وللأسف لحق منزل عبد الناصر الاهمال على مدار سنوات طويلة بعد رحيل زوجته تحية، وتقاعست الدولة في فترة مبارك عن تلبية المطلب العام بتحويل المنزل الى متحف، بعدما تنازلت عنه أسرة عبد الناصر للدولة، وأخيرا تم تحقيق هذا المطلب الشعبي وتم افتتاح متحف عبد الناصر في ذلك البيت، في ذكرى رحيله الأخيرة نهاية ايلول العام الماضي.
تحية كانت ضد الوحدة.. لماذا؟
وتتابع تحية كتابة مذكراتها كزوجة وليس كسيدة اولى او زوجة رئيس، وتقول ان اول مرة سافرت فيها الى الخارج برفقة "الريس" كانت عام 1958 الى يوغسلافيا وهي من الزيارات الخارجية القليلة.
ومن المفارقات الصريحة في الكتاب ما كتبته السيدة تحية عن الوحدة بين مصر وسوريا، فهي لم تكن راضية عن الوحدة كزوجة وأم لأن هذه الوحدة والتي كانت مطلب الشعوب العربية، أخذت منها الزوج والأب عبد الناصر، فنقرأ ما تقوله بمنتهى الصراحة والعفوية يوم تلقى عبد النماصر خبر الانفصال وهي الى جانبه، فتقول: " وكنت محتارة بين أن أكون زعلانة متأثرة لزعله أو أكون لست زعلانة. اذ لم تكن الوحدة بالنسبة لي شيئا أستريح له". ( ص 105) لأن عبد الناصر أصيب بمرض السكري خلال الوحدة وكان يغيب لوقت طويل عن البيت. وتذكر تحية ان عبد الناصر كان يعرف رأيها حين قاله لعبد الحكيم عامر ذات يوم " انها كانت انفصالية ولم تكن تعجبها الوحدة". ( ص 106)
بصفحات قليلة تحكي لنا تحية عن جمال الأب المحب لكن الصارم، عن الزوج الوفي لكن الصعيدي، عن الابن والأخ المخلص لكن العادل، عن الصديق الصادق لكن الحازم. تحكي لنا عن مرضه والتعب والجهد فوق العادة، وعن رحلات علاجه الى الاتحاد السوفييتي. وتصل الى نهاية المشوار القصير، الى اليوم الأخير في حياة الزعيم، الى توافد المسؤولين والوزراء الى البيت والنحيب والبكاء على خسارة أب كبير للجميع، لكن تحية تبقى الزوجة والحبيبة التي تريد لقاء خاصا بها وبه لم يتحقق في الحياة وطلبته بعد وفاته. " قلت لقد عشت ثمانية عشر عامًا لم تهزني رئاسة الجمهورية ولا زوجة رئيس الجمهورية وسوف لا أطلب منكم أي شيء أبدًا.. أريد أن يجهز لي مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه.. وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره". (ص 136) وفعلا وبعد وفاتها رقدت أخيرا السيدة تحية الى جانب زوجها رقدة أبدية بسلام.
- تحية جمال عبد الناصر – ذكريات معه، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية 2012
[email protected]