عندما وقع نظري على ما جاء في بيان لحركة تعمل جاهدة على أن تولد قريبا، واتخذت لها اسما براقا جذابا لامعا " حركة كرامة ومساواة" معلنة أنها " ستزف لجماهيرنا بزوغ فجر جديد يوم السابع عشر من آذار من خلال مؤتمرها التأسيسي الأول"، تذكرت ولا أدري لماذا، ففي زمن العبثية والتلاعب بالكلمات والشعارات، يحق لي أن أتذكر ما أريد من مشاهد تختزنها ذاكرتي، تذكرت مدرس التاريخ في المرحلة الابتدائية، الذي كان يدخل الى الصف بقامته القصيرة وهو يتأبط عصاه الملمعة والتي تضمن له أن يجلس الطلاب هادئين، ويأخذ يسرد لنا أحداث التاريخ بقالب قصصي ممتع، يجعل الطلاب ينسون العصا ويستمعون الى القصة التاريخية بشغف، والبعض يأخذه خياله لأن يتصور الأحداث تسير أمامه وكأنها شريط سينمائي، وأكثر قصة ما زالت راسخة في ذاكرتي، قصة مقتل الحاكم الروماني يوليوس قيصر، الذي تعرض لمؤامرة من المقربين منه وأعز أصدقائه، وتم قتله على أيديهم طعنا. وحدثنا المعلم بأن قيصر صادفه عراف المدينة قبل أيام من مقتله، ووجه له التحذير " احذر منتصف آذار" وهو اليوم الذي قتل فيه قيصر، لكن قيصر وكحاكم مطلق اعتبر النداء هذيانا واستخف به ولم يلتفت له، وحاولت زوجته أن تمنعه في ذلك اليوم الخروج الى الاجتماع مع أركان دولته، لكنه لم يأبه للتحذيرات ونداء العراف - الذي كان يعيده لنا المعلم مرارا بصوت معبر- " احذر منتصف آذار".
حضر ذلك المشهد من أيام الدراسة عندما قرأت عبارة " بزوغ فجر جديد يوم السابع عشر من آذار"، من بيان حركة جديدة ستنضم الى ركب الحركات والأحزاب السياسية في مجتمعنا العربي وما أكثرها عددا وأقل عملها فعلا، وكدت أقفز من مقعدي وأنا أهلل وأصفق لأننا أخيرا سنحقق مطالبنا وننهي سياسة التمييز الحكومي ونحصل على حقوقنا كاملة.. لا ، لست أهذي فها هي التي تسمي نفسها " حركة كرامة ومساواة"، تقول ذلك في بياناتها، نعم بدأت عملها ببيانات من "قاع الدست"، وتقول لك أنها سئمت الشعارات والمزايدات!!
تستهل الحركة الوليدة بيانها بالتوجه الى " جماهيرنا العربية في الجليل والمثلث والساحل والنقب" أي أنها لا تعترف بوجود اسرائيل.. "الى المقهورين من ضحايا العنصرية والاستبداد" ولم تحدد لنا في أي الأماكن ويبدو أنها ستكون حركة أممية.. " الى الشعوب والحكومات المحبة للعدل والسلام"، طموحاتها دولية ولا تقتصر على المحلية.. واذا لم تقتنع فاقرأ " الى المجتمع الدولي بأسره"، ما شاء الله، عظمة على عظمة "يا حركة"، ومن كبّر ضربته ما أصاب، هكذا قال حكماؤنا والمجربون منا.
تستعرض لنا الحركة بعبارات ثورية، وضع بلداتنا وقرانا في المناطق الجغرافية المختلفة، مخصصة فقرة من بيانها المكثف لكل منطقة جغرافية، وبهذا تعلن أنها تنظر بمساواة تامة لأهالي الجليل والمثلث والنقب والساحل، وتطلعنا على ما لا يجهله أي انسان منا، من سياسة تمييز تلاحق أبناء شعبنا من قبل السلطات الاسرائيلية في تلك المناطق.. هللوا وصفقوا فقد عرفنا الداء، وما هو الدواء يا حركة؟
" نقول لجماهيرنا العريضة"، نعم اننا جماهير عريضة وتم نشر عرضنا طولا وعرضا.. وبعد انتبهوا الى المطلوب منكم " آن الأوان للالتفات الى حالنا جميعا والنظر الى مستقبل بلادنا وأبنائنا" ما هذا الكشف العظيم، بعد سبعين عاما جاء من يؤنبنا على أننا لم نلتفت الى حالنا ولم نهتم لمستقبل أبنائنا، أي آباء عاقين نحن، وأي "جماهير عريضة" نائمة وغافلة كنا، شكرا لهذه الصحوة المتأخرة، لكنها أفضل من أن نبقى في نومنا، وأبشروا فها هو الخلاص يأتينا، اذا ما استجبنا "لنداء الضمير والوطن" وسلمنا أمرنا وقدمنا ولاءنا لـ "الطلائع النضالية".. هذه الطلائع التي ستهبط علينا من الجو، أو ربما ستخرج من أدراج معاهد الأبحاث والدراسات، أو من مقاعد بالية في الكنيست، أم أنها ستأتي ممتطية جرافات الهدم والقوانين العنصرية؟!
وبعد تلك المقدمات والديباجات يأتي بيان الحركة الى أهدافها، فقرأت وتمحصت ونجّمت علني أعثر على جديد، ويبدو أن فهم المقروء بات محدودا عندي ولا أجد أكثر مناسبا من الاستعانة بالجمهور علّه يحذف هدفين ويصل للهدف النهائي من بين هذه الأهداف: انهاء التمييز العنصري، رفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي، وقف جميع اشكال هدم البيوت ومصادرة الأراضي، تحقيق تنمية بشرية واقتصادية متوازنة ومحاربة الفقر، اصلاح دستوري جذري، اعتماد المواطنة أساسا للحقوق.. بربكم، بضميركم، دلوني على الجديد في هذه الأهداف، وهل من حزب أو حركة عندنا لا ترفع تلك الأهداف وتنادي بها؟ هل يمكنكم معرفة الهدف الحقيقي للحركة بعد حذف جميع الأهداف؟
وبعد لا شك أن من حق جماعة "كرامة ومساواة" أن تنضم لركب الأحزاب وقد سبقها قبل عام " حزب الوفاء والاصلاح"، وهناك أحزاب تنتظر دورها لاعلان ولادتها، وهي تأتي ليس لتلغي من سبقها انما لتأخذ دورها في القيادة، وما في حدا أحسن من حدا. وأخشى أنها تضمر غير ما تعلن في بياناتها، على غرار ما أعلنه بروتوس، أقرب أصدقاء قيصر والذي شارك في قتله، حين خرج الى الشعب قائلا: "لقد قتلت قيصر ليس لقلَة حبي له، بل لأني أحب روما أكثر"! أو أنها تعكس حالة بائسة تصور حالنا، سمعناها في صرخة غوار الساخرة في مسرحية "غربة"، متوجها للمدرس الباحث عن الديمقراطية "ضيعة كلها زعماء من أين أحضر لك شعبا"؟!
[email protected]