قليلات هن النسوة اللواتي يجرُؤن على البوح بمعاناتهن من العنف الأسري، أو العملي، أو في الشارع، أو الأسواق، أو وسائل النقل.. سواء كان عنفاً جسدياً أو معنوياً، أو لفظياً، أو حسياً، أو عاطفياً.. يجدن في كتمان هذا العنف عن المجتمع عزاء لهن، ربما خوفاً من الشماتة أو خوفاً من فقدان الوظيفة، أو الزوج أو محل السكن، فيفضلن أن يكال لهن العنف بجميع أنواعه على أن يجدن أنفسهن مطلقات أو بلا وظيفة أو مشردات.
لكن حتى وإن تكتمن على الأمر وبررنه بجميع المبررات التي وجدت على سطح الأرض، سيظهر للعيان يوماً ما، فالعنف لا يولد سوى نظيره، والكائن المعنف هو كقنبلة موقوتة ستنفجر يوماً ما، وفي حال النساء المعنفات، غالباً ما تنفجر هذه القنبلة في وجه أطفالهن، فالمرأة عندما يشوه ملامح روحها عنف حسي لفظي أو جسدي، تُمسخ بذلك معالم الإحساس ومكامن الحنان ومصادر القوة عندها.. فكيف لكائن كهذا أن يمنح جيلاً بريئاً العناية والحنان والرحمة المطلوبة؟!
منذ أن ظهر الإنسان على سطح هذه الأرض وابتليت بحمله فوقها تجري به في هذا الكون الفسيح، حتى اخترع القوة العضلية في فرض سيطرته على من حوله، فجاءت الرسالات السماوية لتهذب هذا الكائن الضائع، وترشده إلى الطريق الصحيح في استعمال قوته، وتعاقبه إذا اعتدى على مَن هو أضعف منه.
تعلم الإنسان أن العنف ليس وسيلة شريفة لتحقيق أهدافه ولا لقمع خصومه، فنسي وتناسى، وما لبث أن عاد إليه في كل حقبة وزمن، مرة عنفاً يدوياً صنعه كالسيف والمنجنيق والقوس ليسلب ممتلكات غيره، وطوره ليجعله عنفاً صناعياً علمياً كالدبابات والصواريخ وراجماتها.. كان الهدف الرئيسي منها مواجهة الخصم والعدو، ثم الاحتماء وتأمين النفس وفرض الهيبة.
العنف رافق الإنسان منذ وجوده، فاكتمل من ملك جماح قوته ووجهها لما ينقذ به البشرية، وهوى في درك التغول من جعله وسيلته في الحياة، فالمنتصر بالعنف كما قال المهاتما غاندي، هو منهزم شر هزيمة؛ إذ إن نصره سريع الزوال.
والمرأة مخلوق ضعيف جسمانياً إذا ما قورنت بالرجل، مع احترام الحالات الشاذة، التي لا تبني القاعدة، فكانت دائماً معرضة لعنف الرجل المخبول، سواء كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو ابن عم، يؤدبها أو يقوم اعوجاجها المفترض باللكم والركل والنتف، وكان الأمر -وما زال في بعض الأسر والمجتمعات- عادياً جداً كأكل البطيخ البارد في فصل صيف حار، وكأن من واجباته فعل ذلك، ومن المنوط بها تحمله وتقبله بصدر رحب، تطورت الأزمنة وصار الأمر مدعاة للخجل، وللوم وللمعاقبة القانونية، وإن كان ذلك في الظاهر فقط، فما زالت النساء في القرى والأحياء الشعبية يعانين من الضرب المبرح المؤدي أحياناً للموت، وما زلنا لغاية الأسبوع الفائت نشاهد شريطاً مصوراً لأحد الرجال وهو يهم بذبح امرأته بسكين أمام المارة لولا لطف الله وشجاعة رجل انقض عليه وأوقعه أرضاً، ما زال المجانين والأنذال ينفسّون عن غضبهم بتشويه وجوه خليلاتهم، ما زلت أسمع بشكل أسبوعي تقريباً استنجاد جارتنا بالسكان وهي تئن تحت ضربات زوجها.
حتى في الأوساط التي تحررت نوعاً ما من العنف الجسدي، خوفاً من المتابعة القانونية أو الأخلاقية أو سوء السمعة، هناك ما يسمى بالعنف اللفظي، الحسي.. العاطفي، الذي يلجأ له أحد الطرفين للانتقام من شريكه، أو زميله، العنف الذي يسبب جروحاً عميقة في أرجاء الروح تنزف خلاله كل ذرة شغف ومتعة وفرح، هو العنف الذي تتعرض له المرأة عندما يهينها زوجها بكل كلمة جارحة وقول يحط من كرامتها أمام أطفالها، وهو العنف الذي يمارسه رب العمل في حق موظفة أمام زملائها منتقصاً من إنسانيتها، وهو العنف الذي تعيشه كل أنثى عربية في الشوارع من طرف المتحرشين بغمزاتهم ولمزاتهم وكلامهم ونظراتهم الشهوانية المنحطة، وهو العنف الذي تعيشه المرأة العربية عندما تحرم قيادة السيارة، والتصويت، والكلام، والتعبير، والكتابة، والخروج، والدراسة، والعمل، والاستقلالية، سواء بنص القانون، أو نص الأعراف، أو نص الفهم الديني المتخلف.
كلنا تعرضنا لنوع من أنواع العنف، خلال طفولتنا، أو في فترة المراهقة، أو خلال الدراسة، أو في الشوارع، أو أثناء الزواج، أو خلال العمل.. كلنا نفهم ما يعنيه أن تشعر بالضعف تجاه عنف كان جسدياً أو لفظياً أو حسياً، كلنا ندرك قمة الألم والتقزز التي تنتابنا أثناء ذلك، كلنا نحاول جاهدين تجاوز هذا الأمر فيظل راسخاً في أعماقنا كندبة استعصت على أمهر الجراحين التجميليين.
العنف حل بيد الأقزام إنسانياً، ووسيلة لمن لا وعي له ولا روح له، فلا يلجأ للعنف إلا ضعيف شخصية، ومنعدم الوازع، الخلقي والديني والإنساني، فالعنف لا يغير فكرة، ولا ينتج قيمة، ولا يمنح الرضا والطمأنينة، فهو جمرة تلهب يد صاحبها قبل أن تحرق غريمه.
[email protected]