بدأ شاعرنا مسيرته الأدبية عام 1974 بديوان "الملاك الأبيض"، وتلاها بثلاثة أعمال حتى عام 1979. بين 1980 و 1990 توقف الأديب عن عطائه ليدخل في ما يُدعى مرحلة الصمت، كرّسها للدراسة الفكرية والعلمية والتثقيف الذاتي، فهي فترة تأمل ومراجعة وتحضير روحيّ وفكريّ لمتابعة المشوار الأدبي. وهنا جاءت المرحلة الثالثة ولعلها أهم مرحلة في المسيرة الأدبية، حيث أبدع وهيب بأعمال عديدة حاز خلالها على جوائز عدّة اعترافا بموهبته الفريدة، منها المسرحية الغنائية "أبرياء ولكن" التي عُرِضت على خشبة المسرح، وبعدها مجموعة شعرية بعنوان "وقع حوافر خيل"، وتتضمن قصائد غاضبة متمردة على النفاق الاجتماعي برمّته، وبعاطفته الجياشة نشر أعمالا خاصة بالأطفال والشبيبة (لضيق المجال لا نتمكن من سرد كل أعمال الأديب المبدع). أما هذه الرباعية الخالدة فهي مشروع أدبيّ، جمع فيها أديبنا أربع باقات عطرة ليجعلها بستانا يعطر أجواء الأدب المميَّز، وفيها شرح نقائض الطبيعة ونقائض الإنسان، وسرد التاريخ من الناحية الإنسانية وتناول مفاتيح السماء ليدخل الجنة ويحضّرنا لدخولها. ومسرحة القصيدة هي كاسمها وهي في هذه الرباعية جمعَت بين الشعر والنثر، فما قد لا يُفهم بلغة الشعر يُفهم بلغة النثر، وهكذا يزيل الأديب العقبات ليصل القارئ إلى ما يريده الكاتب. اختار وهيب للرباعية عنوان " البحر والصحراء "، ولكل منهما مزاياه، فثورتهما مخيفة وسكونهما يحوي أسرارا عميقة. الرباعية مكوَّنة من أربعة كتب نال فيها وهيب جوائز الإبداع، وتُرجِم كل عمل إلى أكثر من لغة وهي:
وفي رباعيته جعل الشاعر الكتاب الرابع في المكان الثالث، وهذا بديهي إذ علينا أن نحصل على المفاتيح لندخل الجنة. ويقول وهيب في تجربته الأولى (المجنون والبحر) إن مسرحة القصيدة هي عملية دمج كلمتين: مسرح وقصيدة. وفي تجربته الثانية يقول إن مسرحة القصيدة مزيج لجميع عناصر الأدب معا، بتوافق مع النص سواءً شعرا كان أو نثرا أو حتى مختلطا. وفي الكتب الأربعة تظهر بوضوح ما تُسَمّى (الفكرية الواضحة)، وفيها أبدع وهيب لأن هذه الفكرية تقترن أبدا بوعي متيقظ وتأملٍ مجرد وتجربة منطقية، جامعا بين الشعر والنثر الذين تطوّرهما هذه الفكرية.
في (المجنون والبحر) يناقش الشاعر بنصّ إبداعي ما آلت إليه أخلاقنا وأوضاعنا وتعاملنا الغير إنساني في هذا العصر التي غلبت عليه المادة: ".. أصبحنا بحاجة إلى قضاء ولجان تحكيم في ما بيننا من علاقة. أصبح الإنسان الطيب النزيه منبوذا ومرفوضا وكافرا، كما يقال أو لا يقال انه متواضع يحب الخير لكل الناس، طيّب القلب سريع الانفعال وصافي العقل والوجدان. أصبحَت النزاهة عارا والدعارة علما والخداع تجارة والكذب مهنة.."، ويثور المجنون ويجمع زجاجات الحزن ويلقيها في البحر ليغرقه بالأحزان. ووهيب يناجي آمال الأبرياء وأحلامهم ويبكي لواقعهم: "الفقر يا هالة (حبيبة المجنون) أقسى من الموت، فنصف العالم العربي يعيش في المقابر والخيام"، وتغمره هالة بحبها وحنانها فيهدأ، ولكن البحر يشدّه وندما تفيق يكون قد ذهب، ويتركها فريسة الألم والغياب، فالدنيا تبقى كما هي وكذلك الناس.
في (خطوات فوق جسد الصحراء) ينتقل وهيب مثقلا بمآسي مجتمعنا إلى الرسالة النبوية الشريفة، التي أنزِلَت من السماء هدايةً للبشر، واصفا إياها بكل شفافية وصدق الإيمان منذ الجاهلية، محلّقا في تاريخٍ تعارك بين الإيمان والكفر، ذاكرا حضارات الأمم على ضفاف الرافدين والنيل، إلى المحيط الأطلسي غربا وحتى حدود الصين شرقا، جاعلا من شظف الصحراء نسمات رقيقة تحمل الروحانية والوجدان. ويطير وهيب بخياله بين النجوم متأملا كأنه يتنبأ: "سيد الأرض سيأتي يهتف باسم واحدٍ احد.. وتكون ليلة القدر وحْيا.. فتحَت السماء أبواب الجنة وخرجتَ للعالم رسولا، وأنزِل إليك الكتاب "اقرأ باسم ربّك الذي خلَق"... تضيق قريش الخناق على المسلمين، ويخرج سيد الأرض كما تخرج النبتة من البذرة... ويصعد صعود المعراج مارا ببيت المقدس ويدخل السماء السابعة... وخرجَت الوثنية لحرب الله وخرجتَ أنت منصورا من عند الله، وتُشرق مكة طوع يديك مؤمنة، وهي لحظة خلقٍ في التكوين أن تعود إلى مكة، وأن تكون حجة الوداع "لا اله إلا الله".. وهكذا يُنهي وهيب رائعته هذه.
أما (مفاتيح السماء) فهي قمّة في البلاغة، تغمر الروح بأسلوبها السلس الراقي متوَّجة بالمعاني السامية، أوصل فيها وهيب الرسالة عن عظمة السيد المسيح، الذي كرّس حياته لخدمة الإنسانية بمحبة وتواضع مثاليين، ويصف وصفا راقيا ذكيّا لمعجزات المسيح الإلهية ويقول: "كان هائما يحمل نهر الأردن بين راحتيه، قاصدا ارض كنعان، وكنتُ صاعدا إلى ملكوت الكلمات يخاطبني الغمام ويحاورني الصدى"... ويصف لنا الشاعر رحلة يسوع بخشوع الروح منذ ولادته في المذود، حتى صعوده إلى ملكوت السماء: "صعد كسنبلة قمح للجائعين المبدعين حقول الكلمة.. صعد كرفّة جفن بين الطير والشجرة، وكمثل برق السماء أنار الدنيا"...
الجنة: ينطلق وهيب بخياله المتألق إلى وصفة الجنة، ويقف على مكانها ومكانتها وطبيعتها المتحولة، ويرى في تأملاته النور الذي يحيط بها ويحرس داخلها، ويشير برمزيةٍ إلى أن مسارَها الخارجي مسارٌ يتحرك دوريّا، كمدار الالكترونات حول النواة في الذرّة، وهي تدور إن شاء الله وتتوقف باسم الله، وهذا المدار يحافظ على مناخ الجنة ويتحكم في دوران الفصول والليل والنهار. ويدخل وهيب بوابات الجنة الخمس، ولكل بوابة لونها ووظيفتها ومزاياها ورمزها، مارّا بالبيضاء فالزرقاء فالصفراء فالحمراء إلى الخضراء، فيصفها وصفا أخّاذا ويكشف لنا ما ترمز إليه إرادة الله في الجنة، حيث تتجلى عظمة الخالق وعدله.
هذا موجز وجيز لهذه الرائعة آملين أننا أوفينا شاعرَنا المميَّز بعض حقّه، ولو سمح لنا المجال لنشرنا الرباعية الكاملة.. كاملةً.
بقي لنا أن ندعو للأديب الشاعر وهيب وهبة تمام الصحة وطول العمر، ليتحفنا بالمزيد من الأعمال الرائعة ولنستفيد من عطائه المثمر والى الأمام....
- المصدر: صحيفة الحديث- الجمعة 11 تشرين الثاني 2016 – العدد 469
- الاقتباسات بتصرف من كاتب المقال.
[email protected]