كثيرة هي التحديات التي تعترض طريق النجاح في العمل... من غيرة الزملاء، إلى تآمر المنافسين، وصولاً إلى مضايقات الرؤساء! فإلى من نلجأ لمدّ يد العون؟ مشاكل العمل تكاد لا تنتهي، لكنها كلّها في كفّة، والتحرّش في كفّة أخرى! إذ إنّ هذه الأفعال والتصرّفات المنافية للحشمة والأخلاق، تنعكس سلباً على «الضحيّة».
فما هو تعريف التحرّش في أماكن العمل؟ ومن يطاول؟ وماذا يخلّف من أضرار؟
تحرّش
لا يمكن فصل التحرّش في مراكز العمل عن سواه في الأماكن العامة والطرقات وحتى في المنازل... فهو آفة أخلاقية قديمة، تشكّل نوعاً من «التابو» الممنوع التداول به. وقد بدأت خباياه تظهر في السنوات الأخيرة الى العلن، بسبب انفتاح المجتمعات وتطوّرها وتكاثر الجمعيّات الخاصة بحقوق الإنسان وانخراط وسائل الإعلام في الحملات المناهضة للتحرّش وتبدّل نظرة المرء إلى كيانه ووجوده بشكل عام.
تقول خليفة: «يمكن تعريف التحرّش بأنّه مجموعة من الكلمات أو الأفعال التي تحمل طابعاً جنسياً، وتنتهك خصوصية الشخص الآخر الذي لا يرغب بهذه الأعمال، ويشعر بعدم الارتياح أو الخوف أو الإهانة أو التهديد، وبخاصة من سلطة صاحب العمل، ويعيش في قلق دائم من فقدان الوظيفة في حال رفض الأمر الواقع».
التحرّش في مكان العمل بدأ يتحول الى مشكلة تبعث على القلق، حيث يجد «الموظّف» نفسه بين فكّي كمّاشة: فإمّا السكوت بسبب الحاجة الماسّة إلى العمل، أو الشكوى والرّفض، ما يكلّف بدوره ثمناً باهظاً، من حيث السّمعة وحتى مخافة الطّرد!
وتضيف خليفة: «غالباً ما تنتاب الضحيّة مشاعر بالخوف الشديد والخجل فلا تظهرها الى العلن وتفضح المستور، مخافةَ عدم الترقّي أو خسارة العمل بالطّرد من جهة، والتعرّض للأقاويل والتهميش والشائعات المُغرضة من جهة أخرى. فإذا بها مجنيّ عليها في الحالتين».
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التحرّش يشمل درجات من المضايقات، تتصاعد من العنف اللفظي وصولاً إلى ذاك الجسديّ. تقول خليفة: «يبدأ التحرّش بالتّحديق والنظرات غير اللائقة إلى أجزاء من الجسد، مروراً بالتعابير والإيحاءات كالغمز وحركات العينين والفم، مرفقةً بالأصوات والنكات والملاحظات، وصولاً إلى المضايقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحتى الواتساب.
ضحايا صامتون!
«بحُكم مجتمعنا الذّكوري، ما زالت «الضحيّة» المُلام الأوّل لمختلف ما قد تقاسيه، لذلك غالباً ما لا يجرؤ أحد على الاعتراف بما يتعرّض له. وتجدر الإشارة إلى أنّ المرأة أكثر عُرضة لهذه التحرّشات في مكان العمل، لأنها الكائن الأضعف في نظر الجميع، الذي لا حول له ولا قوّة»... تؤكّد خليفة، وتضيف: «يلعب نفوذ صاحب العمل وحاجة الموظّفة إلى العمل دوراً أساسياً في تكريس هذه الآفة، إذ يستغلّ الرئيس السلطة للترهيب معنوياً وفعلياً، فيما تهاب الضحيّة الفضيحة والعار ونظرات الازدراء والتأويلات والاتهامات الباطلة. إذ ما زال البعض حتى اليوم يُلقي اللوم على السيدة نفسها، لكونها «مغرية»، أو جذابة، ما يدفع الرّجل غريزياً إلى التودّد إليها! ولكن هذا لا يمنع أنّ بعض النساء - وإن بنسب ضئيلة - يبالغن في التصرفات الودّية والإيحاءات، بسبب عدم النضج وقلّة الخبرة في التعامل مع الآخرين أو لصغر سنّهن... أمّا الرجل، فمختلف عن المرأة من حيث تركيبة الشخصيّة. إذ قد يتعرض أحياناً لـ«مضايقات» من صاحبة العمل أو من زميلات له، لكنه لا يعتبرها تصبّ في خانة التحرّش، بل يراها إطراءً له ويفرح بها في لا وعيه. وفي أقصى الحالات، قد يتفادى الرجل الانفراد مع «المتحرّشة»، أو ينفر منها فحسب، ولكنه لا يعاني مُعضلة «الضحيّة».
هذه الظاهرة ليست جديدة، بل كانت منتشرة منذ القدم، بسبب القواعد الاجتماعية والعقائدية الصارمة والتربية الذكوريّة البحتة وقلّة النضج المعرفيّ عند الشخص والموروثات الاجتماعية والمشاكل المتفاقمة، مع تخبّط العالم بأزمات اقتصادية وسياسيّة واجتماعيّة وحتى أخلاقيّة بشكل دائم. كما قد تعود المشكلة إلى أصل التنشئة الاجتماعية المغلوطة والنظرة الدونية إلى المرأة. هذا، ويلعب الإعلام دوراً بارزاً في تكريس استغلال جسد المرأة بصورة نمطية بحتة، ما يؤثر بالطبع في ضعفاء النفوس ويقودهم إلى الاقتناع بصوابية التحرّش بأيّ امرأة... ما تغيّر هو الوعي فقط عند شريحة من الناس، بأنّ «الضحيّة» لا ذنب لها في الاعتداء أو التحرّش، وبأنّ السّكوت عن الإهانة أو الخطأ شيطان أخرس، فلا بد من رفع الصوت وتسليط الضوء على هذه الآفة، بغية التغيير نحو الأفضل وضمان حق كل إنسان في العيش بكرامة والعمل بنزاهة.
انعكاسات وعواقب
ترى خليفة أنّ «لا جواب موحّداً على الانعكاسات المختلفة للتحرّش. فلا يمكن تحليل الفعل بحدّ ذاته، وإنما يجب التطرّق إلى كيفية تلقّي كل شخص للفعل، وكيفيّة تقبّله وتعايشه معه. إذ يتمّ التشخيص النفسي بناءً على قدرة المرء على التحمّل وتركيبة شخصيته المختلفة عن سواه».
أما من حيث الأضرار والعواقب، فتوضح خليفة: «تعيش الضحيّة حالة صدمة في بداية الأمر، ما يخلق أمراضاً نفسيّة ويتسبّب في اضطرابات كثيرة، مثل القلق والاكتئاب ونوبات الهلع. كما قد تتدهور نظرة المرأة إلى العلاقة مع أيّ رجل ويتعطّل جهازها النفسيّ، ما يؤدّي إلى سلبيّة في التفكير والتعامل مع الآخرين». ومن الآثار الوخيمة التي قد يسببها التحرّش في العمل: الترهيب النفسي والتوتر الدائم والشعور بالذنب، بالإضافة إلى الأرق والصعوبة في النوم والكوابيس، ما يخلق حالات من عدم التركيز واللامبالاة والعصبيّة».
ردّ فعل ومقاومة!
مهما قست ظروف الحياة، لا بدّ من محاولة لملمة الأشلاء والنهوض من جديد. من هذا المنطلق، يتوافر الاستشاريون النفسانيّون لمساعدة كلّ إنسان يمرّ في أزمة نفسيّة، عبر تفسيرها بشكل علميّ ومنطقيّ مجرّد، ومساعدته على التفكير بصوابيّة قبل اتخاذ أي قرارات حاسمة ومصيريّة.
وتشير خليفة الى «أن عند وقوع حادثة التحرّش، لا يجوز مطلقاً التهاون بها أو نكرانها أو الخجل منها. بل يجب المواجهة عبر وضع حدّ للمعتدي ومنعه من القيام بهذه التصرّفات المشينة، عبر التوضيح له، شفهياً أولاً، ومن ثمّ اتخاذ إجراءات أخرى». كما يجب ترك العمل فوراً في حال تكرار الأمر، وعدم مجاراة الجاني في تنفيذ رغباته مخافة خسارة الوظيفة أو التعرّض للانتقادات. فالسكوت يُقرأ على أنه ضعف أو حتى موافقة على الجرم! وهذا لا يجوز مطلقاً، وقد يزيد من وتيرة التحرّش ووطأته. والبعض قد لا يرتدع بالتهديد بالإخبار أو بالحوار، فلا بدّ من إيجاد المخرج الأنسب للأزمة.
[email protected]