وقّع الكاتب محمد هيبي روايته، "نجمة النمر الأبيض"، في أمسية مميّزة أقامتها دارة الثقافة والفنون التابعة لمجلس الطائفة الأرثوذكسية في الناصرة، يوم الخميس الماضي، 27/10/2016، حيث غصّت قاعة الدارة بحشد من المثقّفين وعشّاق الأدب. وقد شارك في الأمسية بمداخلات مميّزة حول الرواية، كل من البروفيسور إبراهيم طه، أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا، والناقد الدكتور رياض كامل، مدير مدرسة راهبات مار يوسف في الناصرة. كما تولّت عرافة الأمسية الشاعرة لبنى دانيال.
في بداية اللقاء، رحّبت السيّدة نائلة لبّس بالجمهور والمتحدّثين على المنصّة، ثم استعرضت باختصار تاريخ الدارة وبرنامج نشاطها الغني والداعم للإبداع في كل مجالاته، ثم دعت الشاعرة لبنى دانيال لتتولّى عرافة الأمسية.
افتتحت الشاعرة لبنى دانيال الأمسية بمقدّمة حول الكاتب محمد هيبي، وقراءتها الخاصة لروايته "نجمة النمر الأبيض". ومما جاء في تقديمها: "نجمة النمر الأبيض" رواية جميلة. المكان فيها، وهنا "المنارة" تحديداً، هو الوجع المُستباحْ الذي لا يهدأ ولا يرتاحْ في بلادٍ تجعلك تُسافر الى معالم أخرى. وقد ترجع مملوءاً فراغاً بعيداً عن الطمأنينة أو أنك ترجع بكامل البقاء، أو أنك باقي، وكلنا سواء. قد نغيّر فكرتنا عن الحب، عن النزوح، عن المنفى، عن الزواج، عن المرأة، عن الرجل، عن الدين وعن النفس في تعاطيها مع الآخر. روايةٌ مليئةٌ بالرموز والشخصيات التاريخية والثقافية، استرقني حقاّ واستوقفني الكثير من المشاهد، حينا قد تكون مثقلة بالأعباء أو ثقيلة على الروح بعض الشيء وحينا قد تكون خفيفة لطيفة على القلب المضنى. وقد ذكّرتني هذه الرواية بشعرٍ أقول فيه: "ويحك يا هذا المرّ المارّ الحُر الفارّ من قيظ النار لصحراءٍ بلا ماءٍ تبكي هشاشتها يأتي إلينا كلّما نقص الغياب كلما نادت أرض اليباب واصطلينا واكتوينا بالسراب ... لا تنادِ لا أحد يهفو على قلبك كالمطر يهفو ويرسم تفاصيل قمر". "نجمة النمر الأبيض"، رواية تحملك لتشعر بالوحدة الموغلة وبالغربة في بلاد كلّما ابتعدت عنها اقتربت أكثر وأكثر. وتُجمّل أساريرك بالأمل. ما أجملك وما أروعك أيها الكاتب العزيز د. محمد هيبي حين تحملنا في هذا الفصل الخريفيّ لتقول لنا أن المحبة لا تسقط أبدا. روايتك تترك في الوجع دمعة فرح، وتجعلك تسبح في خضّم الحياة والريح والبحار والذكريات التي ترفل بالذكريات.
ثمّ قدّمت عريفة الأمسية، الناقد البروفيسور إبراهيم طه الذي ركّز في مداخلته على آليّات التقابل والتضادّ والتصادم في الرواية، الآليّات التي يوظّفها الدكتور هيبي لتكريس معادلة الفقد والسعي على نحو ما بيّنته من قبل في مقالين في الاتّحاد ومداخلة أخرى حول الرواية في حيفا. ومن أبرز هذه التقابلات: (1) بين الحقيقة والحلم، أو الواقع والمتوقّع. وهو تقابل حادّ بين الخراب والأمل. الحقيقةُ على الأرض أمّا الحُلُم فما زال يتنبّت في الوعي. (2) بين الرجل والمرأة. مثلما نرى زاوج الكاتب في روايته بين الجنسين الذكرِ والأنثى وجعل حظّ الذكر نصفَ حظِّ الأنثى. وترك لها حقّ القيادة وواجبَ المواصلة. وهذا في ذاته أيضًا من المعاني الملحقة للرواية. (3) بين المستعمِر والمستعمَر. وهو تقابل يرتقي بطبيعة الحال إلى مستوى التصادم العنيف. أما المستعمِر فهو في ثلاثة أشكال: الذهنيّة الصهيونيّة الجشعة، تخاذل رجال الدين والحكّام العرب في كلّ الوطن العربيّ من محيطه إلى الخليج. هؤلاء الحكّام هم الذين كانوا السبب في مأساة والدة محمّد الأعفم. والفصول التي ترصد هذه المأساة هي من أجمل فصول الرواية في شحنتها العاطفيّة الدافقة الصادقة. ود. هيبي يجري نقاشًا حادّا مع كلّ هؤلاء. حبّذا لو ترك الدكتور هيبي كلّ فصول الرواية تنطق بنفسها عن نفسها، تفصح بالأحداث لا بالأقوال عن رؤيتها الفكريّة كهذه الفصول الصادقة المؤثّرة.
هذه التقابلات المركزيّة هي من إفرازات المعادلة الأساسيّة التي أشرنا إليها - معادلة الفقد وما يوجبه من سعي. والتقابلات في ذاتها ضرورة. المشكلة كما قلت وكتبت هي في بعض الهفوات التي وقع فيها الكاتب عند إقامة هذه التقابلات بأشكالها المختلفة أو بسبب هذه التقابلات. ومنها: التوضيح والمباشرة، الثرثرة الآيديولوجيّة، والمبالغة في بناء الشخصيّات وسلوكها. ورغم ما فيها من هفوات بنائيّة تظلّ رواية "نجمة النمر الأبيض" تجربة ناضجة بما يكفي لتبشّر بمزيد من النجاحات في مجال الرواية.
وفي مداخلته، قام الناقد د. رياض كامل باستعراض النواحي الفنية التي وظفها محمد هيبي في روايته "نجمة النمر الأبيض"، منها تعدّد الأصوات، واللغات، والميتاقصّ، وتوظيف العادات والتقاليد والمعتقدات لخدمة لعبة الإيهام. وتطرّق إلى وظيفة اللغة الروائية ودورها فوجد أنّ الروائي يفصّل اللغة على قدر الأحداث، وجعلها تحمل هوية الناطقين بها، حين تكون لغة دالّة وموحية.
وأشار إلى جديد الرواية بالذات فيما يتعلق بالشخصية المركزية شخصية محمد الأعفم ودوره الرمزي الذي يمثل الإنسان العربي المتعلّم والمثقّف في هذه البلاد، والذي يقف في مواجهة الصراعات الدولية والمحلية ليحافظ على هويّته وعلى انتمائه. وحذّر من النبرة الخطابية التي قد تقود الأحداث نحو المباشرة ومن ترهّل السرد وتكرار الفكرة. ووجد أنّ ما يشفع للروائي هو عمق الفكرة وتمكن الروائي من الوسائل والتقنيّات الحديثة، فدعاه إلى تكرار التجربة لأنّ القضية التي يعالجها هي من أهم القضايا التي يواجهها الإنسان العربي الفلسطيني.
واختتم الأمسية الكاتب محمد هيبي فشكر الحضور وكل من ساهم في خروج روايته إلى النور، وكذلك منظمي الأمسية القائمين على دارة الثقافة والفنون وصالونها الأدبي. ومما قاله: "في هذه الأمسية، وبعد أمسية حيفا في السادس من الشهر الجاري، وبعد مناقشة الرواية بالأمس في منتدى الكتاب الحيفاوي، بدأت أشعر أنّ "نجمة النمر الأبيض" تشقّ طريقها بقوة، وأنّ محمد الأعفم (بطل الرواية) ولد اليوم، وهو بصحة جيدة، يعيش بيننا ويتنفس الهواء الذي نتنفّسه جميعا". ثم قدّم بعض الملاحظات حول روايته، ومنها: "يجب أن أؤكّد دائما: "نجمة النمر الأبيض" ليست سيرتي الذاتية، رغم أنني متحتها من ذاتي، وأقول ذلك ليس خوفا مما قلته فيها، وإنّما لأنّ محمد الأعفم ليس أنا، ولكنّه قد يكون أنا، وقد يكون أنتَ أو أيّ واحد فينا. إنّه نحن، الفلسطينيين المشردين في وطننا، ... ولست أدعي أنّ روايتي هي عمل أدبي فنيّ كامل الأوصاف، فهي كغيرها تحتمل النقد، ولم أنشرها إلّا بعد أن قرّرت أنّي جاهز للنقد بكل أشكاله. وأنا سعيد بالنقد الموضوعي البناء الذي لا يُهادن ولا يعرف التأتأة". ثم أنهى كلمته عن محمد الأعفم، بطل الرواية، قائلا: "راح يتفكّر في هذا الكون الضيّق على سعته، ويبحث عن خلاص. فهداه الله إلى "نجمة النمر الأبيض"، تلك المرأة التي لا يُقاوم سحرها، لتكون عونه ورفيقة دربه إلى المنارة التي شرّد منها كل إنسان فلسطيني. حتى أولئك الذين ظلّوا في أرضهم، وعجزت يد الغدر عن اقتلاعهم، ظلوا يعيشون منفاهم القسري في أرضهم ووطنهم، ينتظرون أن يتحقّق الحلم. وهم يؤمنون أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وذات يوم، جميعا سيصعدون الجبل، إلى المنارة، مع محمد الأعفم و"نجمة النمر الأبيض".
وفي نهاية اللقاء، فتحت عريفة الأمسية باب النقاش أمام الجمهور، فشارك البعض بطرح الأسئلة أو بمداخلات قصيرة أثرت الأمسية وبيّنت مدى اهتمام الجمهور بالكاتب وروايته وبالإبداع عامة.
[email protected]