قبل أن تبدأ هوسة التضامن الرسمية والحزبية والإعلامية العربية مع عضو الكنيست الصهيوني أربع مرات د. عزمي بشارة، تساءل الصحافي "الإسرائيلي" المعروف داني روبنشتاين في صحيفة هآرتز في 17/4/2007، إن كان بشارة، الذي كان قد غادر الكيان الصهيوني قبلها بأسبوعين أو ثلاثة على خلفية اتهامات قضائية ضده، سيصبح "هرتزل الفلسطيني". وهي مقارنة مع ثيودور هرتزل واضع كتاب "الدولة اليهودية" ومؤسس الحركة الصهيونية العالمية لا تخلو من دلالاتها الرمزية والسياسية الكبيرة عند القراء اليهود في صحيفة رئيسية في الكيان مثل هآرتز...
ويبدو أن الصحافي روبنشتاين قد بنى هذه المقارنة على قناعته بأن د. عزمي بشارة "مفكر قومي عربي"، "بينما أعضاء الكنيست العرب الآخرون مجرد أعضاء كنيست عرب"!! ويضيف روبنشتاين أن هناك بين الناس من يرشح بشارة لرئاسة "الدولة الفلسطينية"... ولكن، إن عجزت "إسرائيل" و"السلطة الفلسطينية" عن الوصول إلى اتفاق يقوم على حل الدولتين، فإن البديل يبقى "خيار الدولة الواحدة" التي يؤكد روبنشتاين أنها لن تكون "دولة لكافة مواطنيها" كما يريد بشارة، أو "دولة ديموقراطية علمانية" كما طرحت م.ت.ف يوماً ما، لأن اليهود لن يسمحوا بذلك حسب رأيه، بل ستكون فقط دولة "أبارتييد أو تمييز عنصري واحدة".
ومن هنا يتنبأ روبنشتاين لبشارة بلعب دور في توحيد الفلسطينيين في الضفة وغزة مع أخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1948، من أجل "تحقيق المساواة والحقوق المتساوية ضمن دولة إسرائيل" الواحدة. وعندها "من يدري ماذا يمكن أن يحدث؟: فقد يدخل عزمي بشارة التاريخ باعتباره "هرتزل الفلسطيني" ", حسب روبنشتاين... والمعنى أن دور عزمي كهرتزل قد ينبع من تأسيس شيء ما فلسطيني، يجمع فلسطينيي ال67 وال48، ولكن ضمن دولة "إسرائيل"، وبشروطها، إذا فشلت التسوية مع السلطة الفلسطينية.
فهل هذا الطرح مجرد ضغط سياسي على السلطة الفلسطينية، أم أنه يعبر عن مشروع سياسي حقيقي تشترك قوى عديدة الآن في الإعداد له؟
وهل هناك من يعد عزمي بشارة لدور ما، ذي بعدٍ إقليمي، بعدما حول النسخة المعولمة من القومية العربية التي يروج لها إلى نضال مطلبي – سلمي طبعاً - من أجل حقوق أقلية قومية عربية (على أرض عربية) ضمن دولة الكيان الصهيوني، بعدما أقسم هذا القومي العربي المزعوم يمين الولاء لدولة "إسرائيل" في الكنيست أربع مرات؟!
وماذا يعني بالضبط مضمون وتوقيت الدعوة التي تبناها د. عزمي بشارة لحكم ذاتي ثقافي للفلسطينيين تحت سقف دولة "إسرائيل"؟ ألا تمثل هذه الدعوة إخراجاً آمناً صهيونياً لشعار "دولة لكافة مواطنيها"؟ وهل هذه الدعوة، إذا شملت الأراضي المحتلة عام 1967، هي الدور الإقليمي الذي يفصل الآن على مقاس عزمي بشارة بعدما استنفذت السلطة الفلسطينية أغراضها المرحلية بالنسبة للكيان؟
نستحضر هنا ما كتبه محمد أسعد بيوض التميمي في مقالة على الإنترنت (مع عتبنا الأخوي عليه لأنه أخذ كل القوميين بجريرة عزمي بشارة):
"دعوته الأخيرة تبني إقامة(حكم ذاتي ثقافي للفلسطينيين)تحت سقف الكيان اليهودي في الجزء الذي سُرق من (فلسطين) عام 1948... هو أحد توصيات(مؤتمر هرتسيليا) اليهودي الأخير, وهذا طرح خطير جداً يستهدف محاصرة الخطر الديمغرافي الفلسطيني المُتفاقم والمتمدد والذي يتزايد عاما بعد عام, وهذا الطرح هو من طروحات (الموساد اليهودي) بحصر العرب في الجزء الذي سُرق من (فلسطين) عام 1948 في إطار كانتوني يُبعد الخطر الديمغرافي عن (الكيان اليهودي) والذي يُسميه اليهود ب(القنبلة السُكانية الموقوتة),ومن المعروف أن (مؤتمر هرتسيليا) والذي يُعقد سنوياً في مدينة (هرتسليا) قرب تل أبيب يضم جميع الإستراتيجيين اليهود السابقين والحاليين ومن جميع الأحزاب والذين في الحكومة وفي المعارضة, حيث يضعون فيه السياسات الإستراتيجية المستقبلية للكيان اليهودي,وهذا الطرح أيضا طرحه (اليسار الفرنسي) بعد فشل الطرح الأول واشتداد قوة (الثورة الجزائرية) وكانت النتيجة زوال الاستعمار الفرنسي للجزائر,وتبني (عزمي بشارة)لأحد توصيات (مؤتمر هرتسيليا) اليهودي يدلنا على من يُوحي له بهذه الطروحات الخطيرة."
على كل حال، يبدو أن فكرة المساواة داخل الكيان، على أساس سلمي، وربما على أساس "حكم ذاتي ثقافي"، قد دفعت د. عزمي بشارة إلى تقمص شخصية زعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكي في الستينات مارتن لوثر كينغ.
ففي مقالة في صحيفة أل إيه تايمز LA Times في 3/5/2007، أي يوم استقالته من الكنيست، يحاول بشارة تبرئة نفسه من التهم الأمنية الموجهة إليه شارحاً طبيعة كفاحه السلمي لتحويل "إسرائيل" إلى "دولة لكافة مواطنيها"، ومذكراً الأمريكيين بأنهم "يعرفون من تاريخهم الخاص في التمييز (العنصري) المؤسسي التكتيكات التي استخدمت ضد زعماء حركة الحقوق المدنية"... مثل مراقبة الهواتف وتلفيق التهم.
والطريف في مقالة عزمي بشارة في الأل إيه تايمز أنه يستهلها بمقارنة قضيته القانونية بالكيان بقضية الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس الذي شُكك بولائه لفرنسا بسبب كونه يهودياً. وهذه المقارنة، فضلاً عن كونها تكرس مفاهيم "اللاسامية" في الغرب، تطرح تساؤلاً كبيراً وهو أن د. بشارة بهذه المقارنة يؤكد على ولائه للكيان الصهيوني، وأنه مظلوم مثل الضابط في الجيش الفرنسي درايفوس الذي شُكك بولائه الفرنسي بسبب خلفيته العرقية أو الدينية! وعزمي بشارة ليس "أصولياً إسلامياً" بالتأكيد، فهل كان ضابطاً في الكيان، كما كان درايفوس في الجيش الفرنسي؟!.
بغض النظر، التهم القضائية الموجهة لبشارة تتألف من قسمين أساسيين:
1) الاتصال بحزب الله وإيصال معلومات له خلال حرب لبنان في صيف 2006 (وهي تهمة مشرفة لو كانت صحيحة)، ولننتبه أن هذا يفترض أنه حدث منذ مدة طويلة، فلماذا يترك بشارة طليقاً حتى الآن؟!
و2) تبييض الأموال، وهي التهمة التي تتجنب وسائل الإعلام العربية والمتضامنين مع بشارة الحديث عنها. ولكن في خطاب ألقاه على الهاتف في أحد المهرجانات التي أقيمت للتضامن معه في الأراضي المحتلة عام 1948 قال بشارة ما معناه: لماذا يستطيع السياسيون والأحزاب "الإسرائيلية" أن يجمعوا ما يشاءون من التبرعات في أمريكا، بينما الشيء نفسه ممنوع بالنسبة للأحزاب العربية؟!
ماشي! حسب النسخة الإنكليزية من يديعوت أحرونوت في 3/5/2007، فإن بشارة - المؤمن بالعمل السلمي والبرلماني فقط - تلقى بشكل سري مئات ألوف الدولارات التي لم يصرح عنها، ولكن التي لم تستخدم في أية حملة سياسية أو انتخابية أو حزبية وبقيت في حوزته فقط! وأنه رفض الاعتراف بتلقيها، فعرض المحقق عليه أن يقابل من أرسلها له، فرفض!!
المشكلة؟ المشكلة أن عزمي بشارة:
1) ينفي عروبة فلسطين من خلال أطروحة "ثنائية القومية"،
2) يدعو للانخراط السلمي في النظام السياسي "الإسرائيلي" وللمشاركة في الكنيست،
3) يؤمن بحق "إسرائيل" بالوجود، وبحق "تقرير المصير لليهود على أرض فلسطين" كما صرح في جلسة التحقيق معه في الكنيست (التصريحات موجودة لمن يرغب بالعربية والعبرية)،
4) ويلعب أدواراً سياسية حسب الطلب من حمل الرسائل بين الكيان وبعض الأنظمة، إلى مهاجمة مراجعي "المحرقة اليهودية"، إلى التهجم على النظام الكوري الشمالي عندما تطرح قضية أسلحته النووية... وبالرغم من ذلك يسوق باعتباره "مفكراً قومياً عربياً".
وهنا يبرز تساؤل أخر كبير: هل كان عزمي بشارة لأن يفلت حقاً من قبضة الأجهزة الأمنية في "إسرائيل" لو كانت تريد أن تصطاده فعلاً؟ ربما كان الرجل محظوظاً، وربما كانوا يريدون النيل منه فعلاً، فقرر الآن أن يتفرغ للعمل "الفكري والأدبي" (متى يتخلص السياسيون من هذه العقدة النفسية؟!). وليست هذه المرة الأولى التي ينال فيها الكيان من الذين يتعارضون مع سقفه الأعلى حتى بعد أن يقدموا له خدمات جلى... ليست مشكلة، فكما جاء في رسالة استقالة عزمي بشارة إلى داليا إيتسيك رئيسة الكنيست، ونقتطف منها أدناه:
"أقدم بهذا استقالتي من الكنيست. هذه هي الولاية/النيابة الرابعة لي في الكنيست منذ العام 1996، حيث بذلت أقصى الجهود في عملي... كما مثلت بإخلاص المواطنين عامة، والمواطنين العرب بشكل خاص …إلا أنني استطيع النظر إلى الوراء، والقول، برضا، إنني ساهمت في تطوير خطاب برلماني جديد يتصل بالمواطنين العرب كمجموعة قومية وبمصطلح المواطنة... منذ الانتخابات الأخيرة وأنا أفكر بقرار الاستقالة من الكنيست، وتكريس وقت أكبر للكتابة الفكرية والأدبية، إلى جانب النشاط الجماهيري. علاوة على أنني كنت على قناعة بأن وجودي في الكنيست هو دور أقوم به، وليس مهنة."
نعم، ربما يكون الدور القادم أكبر من عضوية الكنيست... وفي جميع الأحوال، تبقى "إنجازات" بشارة احتياطاً استراتيجياً للمستقبل، ولكن لمصلحة من؟
بقلم: ابراهيم علوش
[email protected]