قرأت من دون أن أفاجأ نتيجة الانتخابات العراقية. وأزعم أن أحدا من المراقبين الحصيفين، فوجئ أيضا. المشروع الإقليمي واضح واللاعبون العراقيون يلعبون «على المكشوف»، وما عاد «هناك ستر مغطى». فالشيعي يصوّت للشيعي، والسنّي العربي يصوّت للسنّي العربي، والسنّي الكردي يصوّت للسنّي الكردي.. إلخ.
وليس العراق «المحرّر»، من صدّام حسين أولا ومن الأميركيين ثانيا، حالة خاصة معزولة. سوريا أيضا سائرة بخطوات تدميرية واثقة نحو الفَرز السكاني، مع أن لنظامَي الأسدين الأب والابن «تقاليد ثابتة» في إسباغ الشكل «الديمقراطي» على أعتى أنواع الممارسات السياسية والأمنية. واليوم، على الرغم من القصف بالكيماوي وتهجير الملايين وقتل مئات الألوف وتغيير خرائط البلاد وديموغرافياته يصرّ النظام، المولع لفظا بـ«العلمانية»، على التأكيد للعالم أجمع أنه ليس فقط معاديا للطائفية، بل هو شغوف بالانتخابات والديمقراطية، حتى أنه إذا لم يتوافر مرشح للمعارضة.. اصطنع النظام مرشحا بل مرشحين.
ولكي لا يبقى لبنان وحيدا، وهو الذي قال حافظ الأسد عن شعبه وعنه «شعب واحد في بلدين»، ها هم اللبنانيون موعودون باستحقاق انتخابات رئاسية.. مع أنهم آخر من يُستشار بشأنها، بصرف النظر عما إذا كانوا يدركون هذه الحقيقة المرّة أم لا. أما الفارق الوحيد بين حالة لبنان وحالتي العراق وسوريا فهو أن لبنان بلد أقرّ ميثاقه الوطني ودستوره صراحة بتقاسم السلطات على أساس طائفي – ديني/ مذهبي، وبالتالي، «قونَن» لبنان الطائفية صراحةً.. فلم يُخدع غير شعبه بأن كيانه كيان ذو ديمقراطية منقوصة. أما الحالتان العراقية والسورية فخدعتا كثيرين لسنوات وسنوات، تارةً تحت شعارات العروبة، وطورا تحت ألوية العلمانية. بل إن ما يحدث في سوريا – بعد انكشاف أمر طبيعة الحكم في العراق – ما زال يغري بعض السُّذّج وسيئي النيات، على السواء، بأن نظامه ما زال رهانا مقبولا ضد التطرّف الطائفي.
في اعتقادي ثمة اختلاف كبير بين دور الإسلام في منطقة المشرق العربي ودوره في المغرب العربي. إنه في المغرب العربي كان ولا يزال جامعا وطنيا أساسيا يجمع المكوّنات العربية والأمازيغية، الشلوحية والريفية، الشاوية والقبائلية.. إلخ. وصحيحٌ، أن ثمة وجودا إباضيّا في غير بقعة من شمال أفريقيا كالمزاب (الجزائر) وجبل نفوسة (ليبيا) وغيرهما، وهناك حتى بعض الجيوب المسيحية الصغيرة، ناهيك من الوجود اليهودي القديم وحضوره القوي حتى العقود القليلة الماضية، لكن الإسلام السنّي المالكي بحجم انتشاره وأبويته وتسامحه وتفاعله، حتى مع غير المسلمين، حال دون انزلاق الخلافات إلى مواجهات دينية مفتوحة.
هذا الوضع يختلف تماما عن التعدّدية الدينية والمذهبية الكبيرة في العراق وبلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن)، وكذلك الثقل السكاني المسيحي في مصر. هنا كان لا بد من هوية جامعة أخرى. وحقا، في المشرق ظهر الخيار القومي، «العربي» بالذات، قبل أن ينحرف نحو الشوفينية العنصرية التي استفزّت مشاعر الأقليات الاثنية. ومن ثم، يتشرذم وينتهي في تنظيمات مصطنعة تدعي أنها أحزاب.. يقوم أكثرها على الانتفاع والارتزاق، ثم يبتعد تماما عن التوجّهات القومية منزويا في الملاذات الطائفية المستقوية بالدعم الخارجي.
الإسلام السياسي في المشرق العربي أخفق عندما كان الخيار القومي قويا، وعندما كان الصراع الآيديولوجي العالمي بين اليمين واليسار ما زال قائما.. على ما في ذلك الصراع من طفولية في بلداننا.
«هزيمة يونيو» (حزيران) 1967 أنهت عمليا صدقية الخيار القومي، فترنّحت الناصرية وسقطت خلال سنوات معدودات. ثم جاءت النهاية الفعلية للناصرية – من حيث هي دعوة عروبية لا دينية ولا مذهبية – على أيدي الديكتاتورات المتحمّسين لوراثة جمال عبد الناصر من أدعياء القومية العربية ومنتحلي صفة «المؤتمن عليها».
إذ صار بعثيّو العراق يروّجون صدام حسين على أنه عبد الناصر الجديد، ولم يتردّد «رفاقهم» الألداء» في سوريا في تحدّيهم.. ومنافستهم على التركة الناصرية و«أمانة الأمة»، ولم يكذّب جعفر نميري ومعمّر القذافي الخبر فنصّب كل منهما نفسه وريثا شرعيا لفترة مفيدة من الزمن قبل أن يقرّر الأول – الآتي إلى السلطة على ظهر التحالف مع الشيوعيين – نفض عروبته الاستنسابية والجري باتجاه التأسلُم السياسي، ويستعيض الثاني عن «عروبة» لم يفهمها في يوم من الأيام إلى «الأفرقة».. منصّبا نفسه في نهاية المطاف «ملك ملوك أفريقيا».
البديل الفعلي لكل تلك الظواهر كان «الإسلام السياسي».
مناقشة وضعي ليبيا والسودان المأساويين تطول، وتستحق تخصيص بحث مستفيض عن كل منهما. أما ما هو حاصل في العراق وسوريا ولبنان في «مهرجان» الانتخابات المنجزة والموعودة.. فهو «حروب أهلية» إسلامية – إسلامية، تستولد ذاتها، وتستورد وقودها، وتدفع الكيانات الثلاثة نحو الانتحار الجماعي.
بالأمس، رفضت «جبهة النصرة» التي تقاتل في سوريا، والتي بايعت قيادة تنظيم القاعدة وتعتبر نفسها جزءا منه، التوقيع على «ميثاق الشرف الثوري» للفصائل الإسلامية. وقبلها اتفقت الفصائل هذه، بما فيها «النصرة»، على اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) تنظيما مشبوها وعميلا لنظام بشار الأسد والاستخبارات الإيرانية. وإلى جانب «داعش» و«النصرة» تتكاثر التنظيمات التي تدّعي كلها أنها تمثل الإسلام الصحيح، وأن معركتها «إسلامية» في المقام الأول، بينما يكسب نظام الأسد – ومن خلفه حكام طهران – قوة دفع متزايدة، بالتوازي، مع تراجع المعارضة السورية المعتدلة والعاقلة، سياسيا وميدانيا، لعجزها عن إقناع المجتمع الدولي بضرورة تسليحها.
ولكن ما كان ذريعة كاذبة يلجأ إليها المجتمع الدولي، والولايات المتحدة على رأسه، لتغطية تقصيره في دعم الثورة، يتحوّل الآن يوما بعد يوم إلى حجة مقبولة عند كثيرين – مع الأسف – في ضوء هيمنة الوجه الدخيل والمتطرّف للإسلام السياسي على الساحة السورية.
آفة الطائفية المتطرفة باتت مصدر التهديد الأول لثورة سوريا ووجودها، والحليف المستتر لكل أعداء العرب والمسلمين ومصالحهم ودورهم الإنساني والحضاري في العالم.
متى سنعترف بذلك؟
*نقلاً عن "الشرق الأوسط".
[email protected]