* ثلاث تحديات أساسية: ضمان التنفيذ والتوسيع وإجهاض أي اشتراط! *
- توطئة:
تعاني أقليتنا القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل، منذ النكبة وإلى يومنا هذا، من التمييز القومي الممنهج والتحريض العنصري المسموم، واللذين ينعكسان على حياتنا في كافة مجالاتها، بدءا بمصادرة الأرض والمسكن وأماكن العمل، مرورا بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والخدمات التعليمية والصحية، ووصولا إلى ما يؤدي إليه هذا كله من آفات عدة كالعنف والفقر والتلوثات البيئية.
هذه المعاناة التاريخية تفاقمت في السنوات الأخيرة، مع تصاعد قوة اليمين المسيطر على سدة الحكم والذي يعتاش سياسيا على الاجرام بحق شعبنا في المناطق المحتلة والتحريض ضدنا، نحن المواطنين العرب في البلاد، وهو تحريض ما عاد يقتصر على تصريح هنا أو هناك إنما بات يقونن ويشرعن بصورة مقلقة.
في هذه الظروف المركبة، جاءت الحكومة الحالية والتي تعتبر من أشد الحكومات عنصرية تجاه المواطنين العرب، وأقرت في الأسبوع المنصرم، خطة اقتصادية جديدة لدعم المجتمع العربي، وصفت بالتاريخية وغير المسبوقة، فما هو السر بذلك؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه المقالة، إذ أن جمعية "سيكوي"، سخرت قدرات كوادرها المهنية لتقف مع مؤسسات زميلة أخرى من المجتمع المدني، إلى جانب قيادات الجماهير العربية ممثلة باللجنة القطرية للرؤساء العرب والقائمة المشتركة في مفاوضاتها العسيرة مع وزارة المالية، وكنا قد قدمنا ملفا مفصلا بتحفظاتنا وانتقاداتنا على الخطة وبذلنا كل الجهود لتكون أوسع وأعمق ونعتقد أننا تمكنا من ذلك إلى حد ما، كما أننا واثقون من أهمية التأثير لضمان تنفيذ هذه الخطة وعدم الاكتفاء بها.
ميزة هذه الخطة: علاج الآليات الدائمة بدل الاكتفاء بالهبات العابرة
للتوضيح نريد أن نبدأ من استعراض ردود الفعل عليها في المجتمع العربي، والتي كانت متفاوتة، فهنالك من رأى بأنها تاريخية وغير مسبوقة، وهنالك من رأى بأنها مجرد ذر للرماد في العيون، وهنالك من أكد نية الحكومة على تنفيذها ومن شكك وقال بأن الغبار سيأكلها، لكن أي جهة رسمية أو تمثيلية عربية، لم تعلن رفضها المطلق لهذه الخطة، وبالمقابل، فإن عملية المصادقة عليها في الحكومة، كانت عبارة عن مخاض عسير، فهل كان هذا كله مجرد عاصفة في فنجان؟ برأينا أن الجواب بالنفي. هذه الخطة، وعلى الرغم من نواقصها العدة حظيت بترحيب (وإن كان متفاوتا) لدى جماهيرنا العربية وباستياء لدى اليمين المتطرف لأنها تختلف عن "الخطط الخماسية" السابقة بنقطة مركزية وهي أنها لا تقتصر على "هبات حكومية عابرة".
على مدار سنوات طويلة طالبت قيادة الجماهير العربية ورافعت سيكوي ومختلف مؤسسات المجتمع المدني من اجل المساواة ولا أقل من المساواة في كافة مجالات الحياة ومن ضمنها المجال الاقتصادي. هذه المساواة لا يمكن الوصول اليها من خلال "هبات" حكومية تمنح لمرة واحدة مهما بلغت قيمتها وأهميتها.
فمثلا، لو خصصت "هبات حكومية" بعشرات المليارات الكفيلة بسد الفجوات نهائيا بين البلدات العربية واليهودية، وعدنا بعد عدة أعوام لوجدنا أن الفجوات فتحت من جديد، وذلك لأن "جذر" توزيع الموازنة على مختلف الصعد مختل ومبرمج بشكل يفضّل البلدات اليهودية على العربية وبشكل يوسع الفروقات من عام الى عام.
ومن هنا فقد رأينا دوما بأن الحل يجب أن يكون من خلال تغيير جذري في الآليات الدائمة لتوزيع الميزانيات والموارد وتحويلها من "آليات تمييز وإجحاف" إلى "آليات تصحيح ومساواة". وهذا بالضبط ما يتم اقتراحه في الخطة المقترحة وإن كان بشكل جزئي.
القيمة المضافة الأساسية، لهذه الخطة إذا، هو بأنها تصحّح 15 آلية مجحفة في مجالات هامة، وهي كفيلة بتحويل ميزانيات لا يستهان بها، ليس فقط على المستوى القريب، إنما المتوسط والبعيد، وبالمقابل فإن أحد أهم مساوئ هذه الخطة هو أنها جزئية جدا ولا تعالج جميع الآليات المميزة ضد الجماهير العربية وهو الهدف الذي كان طوال الوقت أمام قيادات الجماهير العربية ومؤسسات المجتمع المدني التي تعمل من أجل المساواة.
نماذج لتغييرات في آليات تخصيص الميزانيات:
سنسوق هنا، عددا من التغييرات التي في آليات تخصيص الميزانيات، لتوضيح ما قصدناه في الفقرة السابقة، وهي بنود نستعرضها على سبيل المثال لا الحصر:
- ميزانيات التربية غير المنهجية: تنص الخطة على أنه يجب سنويا تخصيص ميزانية للمواطنين العرب في مجال التربية غير المنهجية، تساوي نسبتهم بين المواطنين على الأقل، أي ما يقارب الـ 20% من الميزانيات، وبهذا فإنها تضع حدا للتمييز المجحف في هذا المجال بحق الطلاب العرب الذين يعانون من فقر مدقع في التربية غير المنهجية.
- 40% من ميزانيات المواصلات العامة للبلدات العربية: تنص الخطة على أنه يجب تخصيص 40% من كل ميزانية جديدة تخصص للمواصلات العامة في البلاد، حتى العام 2022، للمواطنين العرب، وذلك حتى جسر الهوة بين البلدات العربية واليهودية في هذا المجال، ومن ثم تخصيص 20% من الميزانية على الأقل في المستقبل.
- 40% من ميزانيات البنى التحتية: تنص الخطة أيضا على تخصيص 40% على الأقل ميزانيات الاستثمار في البنى التحتية، بما فيها الشوارع، للبلدات العربية (لا تضم المتروبولينات).
- 20% على الأقل من الميزانيات لاقامة "مؤسسات جماهيرية" في البلدات العربية.
- 25% على الأقل من ميزانية بناء الحضانات اليومية (מעונותיום) في البلدات العربية
- 42.5% على الأقل من ميزانية تسويق وتطوير المناطق الصناعية الجديدة للبلدات العربية.
هل هذه التغييرات هامة؟ وما هي قيمتها المالية؟
نعم، إنها بمنتهى الأهمية إذ ستؤدي إلى إدخال مليارات الشواقل للبلدات العربية، والأهم أنها غير محدودة لعدة سنوات كما الخطط الخمسية السابقة.
وفق تقديراتنا، فإن تعديل الآليات الـ 15، والتي استعرضنا بعضها أعلاه، قد تؤدي إلى تحويل نحو 10 مليارات شيكل خلال الخمس سنوات القادمة بالإضافة إلى 2.1 مليار شيكل سيتم تحويلها إلى السلطات المحلية كهبات للتطوير.
هل هذه التغييرات كافية؟ وما العمل لتوسيعها؟
لا، ليست كافية بأي حال من الأحوال، لأن الجماهير العربية تستحق المساواة الكاملة والتامة في كافة المجالات. وهذه المساواة هي حق وليس منّة من أحد.
السؤال هو ماذا نحن فاعلون من أجل التقدم نحو هذه المساواة؟ هل ننكفئ أم نناضل للتقدم؟ نحن مع النضال والتقدم وبرأينا ان كل متر الى الأمام هو هام في الحرب الشرسة مع الحكومات العنصرية المختلفة، وتوسيع هذه الخطة يتطلب النضال والضغط على مختلف الأصعدة وعلى رأسها السياسي، المهني والجماهيري، الحقوقي والدولي.
والسؤال الأهم: ما سبب الكرم الحاتمي فجأة من قبل اليمين على الجماهير العربية؟
فلنبدأ من الاتفاق أن هذه الخطة ليست مريحة انتخابيا وسياسيا للحكومة ومركباتها بل أنها محرجة لها أمام جمهور ناخبيها، وهو ما جعل المخاض عسيرا إلى هذا الحد، ولا بأس من لفت الانتباه إلى أن المعركة الأساسية كانت بين وزراء الليكود، بينما حاول وزراء "البيت اليهودي" مثلا الاختفاء نهائيا عند البت في هذه الخطة.
نحن هنا نحلل مواقف سياسية، ولكي نكون جديين وعميقين إلى الحد الذي تتطلبه القضية علينا أن ننتبه إلى كافة العوامل والمتغيرات، وفيما يلي أبرزها:
- أزمة الاقتصاد الإسرائيلي: السبب الحقيقي والمركزي هو أن الاقتصاد الإسرائيلي مأزوم، وثمة إدراك عميق لدى القيادات الاقتصادية في البلاد أنه على المدى المتوسط والبعيد لن تقوم للاقتصاد الاسرائيلي قائمة من دون دمج المواطنين العرب في الاقتصاد بشكل جدي. لذلك تتمركز هذه الخطة حول آليات تتعلق بالبعد الاقتصادي والتشغيلي للمواطنين العرب.هذا الإدراك ليس بالأمر الجديد، إنما باتت هنالك قناعة لدى الطواقم المهنية في مختلف الوزارات وبالأخص في وزارة المالية، أن هذه الحاجة صارت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
إننا نرى باقتناع اوساط مهنية واقتصادية هامة في الدولة بأن تنفيذ هذه الخطة سيؤدي إلى حالة من ربح الطرفين منها: win-win situation.
- تصاعد نضال الجماهير العربية: السنوات الأخيرة شهدت تطورا لنضال الجماهير العربية في البلاد، بلغ ذروته الجماهيرية في الحراك الشعبي الواسع ضد مخطط برافر العنصري كما بلغ ذروته السياسية بتشكيل القائمة المشتركة، إلى جانب تعزيز دور لجنتي الرؤساء والمتابعة القطريتين، وأما مهنيا فلم يعد من السهل تجاهل المؤسسات المدنية والمهنية والحقوقية.
هذه العوامل كلها، طبعا إلى جانب تفاقم معاناة المجتمع العربي وانعكاس ذلك على المجتمع الإسرائيلي كله جعلت الحكومة تدرك أنها مضطرة إلى علاج بعض القضايا الحارقة ولو جزئيا، وفي بعض الأحيان قد نجد أنفسنا مستفيدين رغم المنطلقات العنصرية، مثلا: بدء الاهتمام بحل مشاكل الأرض والمسكن في البلدات العربية، خوفا من تحول بعض المدن اليهودية إلى مختلطة).
- الضغوط الدولية وبخاصة من منظمة الدول الأكثر تطورا (OECD): انضمت إسرائيل قبل سنوات معدودة إلى منظمة الدول الاكثر تطورا في العالم، ومنذ ذلك الوقت وهي تتعرض لضغوط حقيقية، من أجل المزيد من المساواة داخلها ومن أجل تقليص الفروقات الاقتصادية داخلها وهو أحد الدوافع الرئيسية لتحرك حكومة يمينية كهذه باتجاه تبني هذه الخطة.
نتنياهو ووزراؤه: بين "الخدمة المدنية" وبلع المنجل!
في الأيام الأخيرة، ومنذ المصادقة على الخطة، شهد خطاب رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ضد المواطنين العرب تصعيدا خطرا، بلغ ذروته في كلمته العنصرية غداة العملية الاجرامية في تل أبيب، وهو بذلك، يؤكد بأن هذه الخطة، تشكل عبئا عليه، تماما كما على وزراء اليمين المتطرف الذين وقفوا على "أرجلهم الخلفية" وحاولوا التلاعب ولا زالوا، من أجل عدم تمرير الخطة وحاولوا اشتراط الخطة بقضايا مختلفة مثل "الخدمة المدنية" وهو الأمر الذي لم ينجحوا به اذ ان القرار الحكومي لا يشترط التطبيق "بالخدمة المدنية" بل تحدث عن اقامة "لجنة" من أجل فحص الموضوع، كما تحدثوا عن وضع شروط لزيادة تطبيق القانون في مجال البناء (وكأن السلطات لا تقوم بالتضييق على الجماهير العربية في هذا الموضوع منذ نشأت).
هذه التقييدات حتى لو لم تكن فعلية فمجرد الحديث عنها هو أمر مرفوض وسنقف بوجهه بكل ما أوتينا من قوة، لكن واضح ان الدافع ورائها هو قصة "الواوي والمنجل" فحكومة اليمين لا تستطيع بلع المنجل ولا تقيؤه. وهي بحاجة من جهة تمرير الخطة للأسباب التي ذكرناها سابقا ومن جهة أخرى هي بحاجة الى تهدئة روع ناخبيها من اليمين المتطرف واظهار نفسها بانها "مسيطرة على الوضع" من خلال هذه الاشتراطات المرفوضة جملة وتفصيلا، إذ نؤكد للمرة الألف أن هذه الخطة ليس فقط أنها ليست منة من أحد، إنما هي أيضا ليست حقنا الكامل، إنما القليل منه فقط!
التحديات الثلاثة: ضمان تنفيذ الخطة، عدم الاكتفاء بها، ورفض أي اشتراط لها!
نحن لسنا "سذجا" لكي نعتقد ان هذه الخطة ستضع حدا للتمييز ضد الجماهير العربية. كذلك لسنا سذجا لنعتقد ان حكومة اليمين ستقوم بتنفيذ هذه الخطة من دون الضغوط المطلوبة شعبيا، برلمانيا، مهنيا وحتى دوليا. اليوم، وبعد إقرار الخطة، أمامنا ثلاثة تحديات مركزية:
أولا، ضمان تنفيذ الخطة: يشير مراقبون إلى أن نسبة كبيرة من القرارات الحكومية لا تنفذ وأن هذه النسبة ترتفع عندما تكون القرارات متعلقة بالمواطنين العرب، نحن لا نريد فقط أن يتم تنفيذ الخطة بشكل عام، إنما أن تنفذ بحذافيرها، وستقوم جمعية سيكوي، إلى جانب قوى أخرى بتسخير طاقاتها وكوادرها المهنية لمتابعة تنفيذ الخطة، كما أننا من دراستنا لها، وجدنا بأن هنالك العديد من "الأهداف المرحلية" في الخطة والتي بوسعنا فحصها وتفعيل الضغط على الحكومة من أجل تحقيقها.
أشرنا أعلاه إلى أهمية النضال بكافة السبل والأصعدة، لكن يهمنا الإشارة بشكل خاص إلى أهمية النضال الجماهيري كسند ورافعة لأي نضال سياسي، مهني وحقوقي.
ثانيا، عدم الاكتفاء بالخطة: الحكومة أكثر من يعرف بأن هذه الخطة غير كافية لسد احتياجاتنا ونحن نعرف بالمقابل أنها في السنوات القادمة وفي كل مرة نرفع مطلبا ما سيتم التلويح بهذه الخطة، ومن هنا فإن من واجب كافة الجهات المعنية وضع استراتيجية من اليوم، لإفشال هذا السناريو، وتصعيد نضالنا من أجل المطالبة باستكمال الحقوق.
ثالثا، رفض أي اشتراط لهذه الخطة! ما ذكر آنفا حول ترويج الخدمة المدنية أو التضييق على البناء غير المرخص لم يمر كشروط في هذه المرحلة، لكن اليمين المتطرف يتربص بهذه الخطة، وفي الحكومة من يريد أن يمرر لنا الميزانيات ضمن مخططات لتدجيننا وسلخنا عن شعبنا وقضيتنا وهنا التحدي الأساس بأن نرفض دفع أي ثمن لهذه الخطة على حساب هويتنا وانتمائنا.
كلمة أخيرة!
وللتلخيص فان اقرار هذه الخطة وضمن الجو السياسي العام القائم في البلاد وتحت حكومة يمين متطرف موجودة في الحكم هو إنجاز يجب علينا كجماهير عربية وقوى ديمقراطية يهودية استثماره. وكلمة حق في هذا السياق يجب التأكيد عليها هي تعاون رائع بين لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية والطاقم المفاوض من قبلها وبين أعضاء الكنيست عن القائمة المشتركة وبين مؤسسات المجتمع المدني وخصوصا جمعيتي سيكوي ومساواة والخبير الاقتصادي علاء غنطوس الذي قام بالتطوع على حساب أعماله الخاصة من أجل تحصيل أكبر انجاز ممكن للبلدات العربية والجماهير العربية، وكلنا أمل وثقة أن هذا التعاون سيثمر في المستقبل إنجازات أكبر وأهم.
- ناطور هي المديرة العامة المشاركة لجمعية سيكوي وكناعنة هو المدير المشارك لقسم السياسات المتساوية في الجمعية.
[email protected]