عندما نقف في ذكرى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة المؤمنين من مكةَ الوطنَ الى يثربَ المدينةَ، نحتاج الى أكثر من تكرار سرد احداثها وبعض معانيها وحكمها ودلائلها ، وهي لا شك غنية بالمعاني والحكم والدروس، وتُعدُّ علامةً فارقةً في مسيرة الدعوة الاسلامية وتحولِّها من مسيرة جماعة مستضعفة في مكة مهددةٍ بالإبادة والاستئصال الى مسيرة دولة مكتملة الاركان، لتنعكس الطريق بعدها من طريق الهجرة الى طريق العودة الى الوطن الأم مكة.
هل يمكن أن نوظف هذا الذكرى الجليلة بمعانيها ودلالاتها لنحدث انعكاسا في مسيرتنا الفلسطينية من حالة الاحتلال والاستضعاف والتهجير والعدوان الى طريق جديد نكنس فيه الاحتلال أو نحاصره وتنطلق معه مسيرة العودة الى الوطن الأم فلسطين ونرفع راية الحرية والكرامة؟
لا شك أن معاني الايمان بالله تعالى والثقة به والتوكل عليه والثبات على الحق والصبر على المحن والشدائد والاستعداد للتضحية والفداء والتمسك بالمبادئ والقيم والاخلاق وحب الوطن وتماسك الجماعة ووحدة صفها والتآخي بين المهاجرين والانصار والإيثار على النفس كلُّها معانٍ تجلَّت في المواقف والاحداث التي سبقت وتخللت مسيرة الدعوة والهجرة.
ولا شك أن حكمةَ النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقيادتَه الرشيدة للجماعة وقدرتَه على التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق والمواكبة المستمرة لكل جزئيات مسيرة الهجرة مكَّنَتْه من تخليص جماعته من بطش مجرمي قريش، الذي شرعوا بتنفيذ خطة الاستئصال والابادة لا للنبي محمد فحسب، بل لعموم الجماعة المؤمنة.
ولا شك أيضا أن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم قد تجلت بعد وصوله المدينةَ في أدق مهمة وأعقدها، وهي ترتيب أوضاع البيت الداخلي للمدينة يثرب، خصوصا أن يثربَ مدينةٌ متعددةُ القبائل والمشارب، فمنذ سنين والاوس والخزرج يقتتلون ، وعبد الله ابن سلول يهيئ نفسه لينصب ملكا على المدينة ، ولقبائل اليهود نفوذٌ وقوة كبيرة، وحول المدينة قبائل الاعراب التي تهدد كيانها وأمنها ومقدراتها.
اللافت للنظر ان القران الكريم ذكر الهجرة في سياقٍ متجاوزً الحدث بتفاصيله الى معانيه، ثم توظيفها في حث المؤمنين على النفير والحشد والاستجابة لله ورسوله فيما يدعوهم اليه ونصرة الدين، مثل قوله تعالى في سورة التوبة " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " ، والمعلوم أن سورة التوبة نزلت متأخرة في العام التاسع للهجرة، وهذا دليل على أهمية الوقوف عند معانيها ولو بعد أكثر من ألف وأربع مائة عام.
لو أردنا أن نستحضر بعض معالم الواقع في مكة في مراحله المختلفة، لأدركنا أن تفاصيله لا تختلف كثيرا عن إفرازات واقع الاحتلال الاسرائيلي للضفة وغزة وفلسطين الداخل، يضاف إلى ذلك واقع التهجير والابعاد لملايين الشعب الفلسطيني اللاجئين اليوم في كل بقاع الارض.
عندما استشعر صناديد قريش وأعوانهم أن الدعوة الجديدة تهدد سلطتهم وامتيازاتهم ونفوذهم خرجوا ضدها، فاتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بداية بالكذب والسحر والافساد في الارض وتقطيع الارحام ، في محاولة منهم لقلب الحقائق وتزويرها تماما كما تفعل اسرائيل المحتلة لأرضنا وأقصانا، ثم تتهمنا بالإرهاب والتحريض ونشر الاكاذيب حول اعتداءاتهم المتكررة على المسجد الاقصى.
تقدم الموقف في مكة وبدأت عمليات التضييق والإيذاء والتعذيب والحبس لعشرات المؤمنين المستضعفين منهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قصة بلال وعمار وعائلته الا نموذجا لهذا الواقع ، ثم تطور الموقف الى عملية حصار عام وشامل في شِعْبِ أبي طالب في مشهد يذكرنا اليوم بعملية وضع الناس في غيتوهات مع إجراءات الفصل العنصري لتنتهي بعدها الى مرحلة الحل الاخير ومحاولة قتل النبي محمد واستئصال الجماعة بأكملها.
أمام هذا الواقع يتمسك المؤمنون بدينهم وبحقهم في وطنهم مكة ويبحثون لهم عن نصير خارجها، فيلجؤون الى النجاشي ملك الحبشة ، ملك لا يظلم عنده احد كما وصفه رسول الله، وبعد كثير من الجهد والمحاولات والخذلان من قبائل العرب يقيض الله لهم نفرا من يثرب ينضموا الى ركب المسلمين ويمنعوا رسول الله والمؤمنين في يثرب. وفي هذا لنا درس عظيم في ادارة علاقتنا مع العالم والبحث عن النصير الحليف والداعم لقضيتنا وحقنا ودفع العدوان عنا.
ذكرت سابقا أن أهم وأدق وأعقد مهمة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم هي ترتيب أوضاع البيت الداخلي للمدينة يثرب ، على من فيها من قبائل العرب: مؤمنهم بالإسلام ومنافقهم ومشركهم ، وقبائل اليهود: بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وكذلك الاعراب حول المدينة وما يشكلونه من تحدي كبير ، وهنا ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من القائد للجماعة الدينية (المؤمنين المسلمين) الى القائد لجماعة المدينة بكل تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والامني للمدينة يثرب ، وينجح النبي في إبرام تعاقد سياسي واجتماعي يكوِّن من خلاله الجماعة الوطنية الجديدة والمتعددة والمتنوعة المشارب والمعتقدات ويصدر الدستور المدني الاول " عهد المدينة " الذي ينظم شؤونها وتبدأ مسيرة العودة الى مكة الوطن .
أن مسيرة العودة الى الوطن مكة ترتكز حقا على كل المعاني التي ذكرناها في مسيرة الهجرة من مكة، ولكنها تطورت أيضا على محاور جديدة مارس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام السياسة بأبهى صورها وأنجع فنونها ووسائلها ، بنى العمران وقبْلَه الانسان وأقام الدين ونشر العدل وأنصف المظلوم وأصلح ذات البين وفرض العلم وقدس العمل، فجاهد وحاور وقاتل وسالم وهادن وعاهد وحالف وألف القلوب وقرب البعيد، لقد أسس رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مشروعا ربانيا إنسانيا حضاريا راشدا، ليعود بعد ثمانية اعوام الى مكة فاتحا إياها سلما لا يسفك دما ولا ينتهك عرضا ولا ينهب مالا ولا يهدم الا الأصنام ويؤمِّنُ الناس على حياتهم واموالهم وأكثر من ذلك يعفو ويصفح ويغفر .
ما تظنون أني فاعل بكم؟ أخ كريم وابن أخ كريم. اذهبوا فانتم الطلقاء
[email protected]