منذ السابع من أكتوبر، شهدت الجبهة اللبنانية حربًا بمستوى منخفض نصرة وإسنادًا من حزب الله للمقاومة الفلسطينية. وتصاعدت وتيرة هذه الحرب في مرات عدة؛ ما أنذر بتحوّلها إلى حرب مفتوحة يمكن أن تصل إلى حرب إقليمية، لكنها لم تصل (لأسباب سنتطرق إليها لاحقًا)، على الرغم من أنّ إيران لديها حساب مفتوح مع دولة الاحتلال؛ إذ تعهدت بالرد على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، ولأنها من الصعب أن تترك حليفها حزب الله يخوض منفردًا حربًا مع إسرائيل، التي ستكون مدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من بلدان حلف الناتو.
أدت هذه الحرب المحدودة إلى خسائر كبيرة بين الجانبين، وكادت أن تتحول إلى حرب شاملة أكثر من مرة ولم يحدث ذلك. ودعا يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، إلى شن حرب مباغتة ضد حزب الله في اليوم الرابع للحرب، وتحديدًا في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (غالانت اعترف بأنه دعا إلى ذلك حين كان ذلك مناسبًا ولم يعد كذلك الآن)، إلا أن فيتو أميركيًا ومعارضة من داخل الحكومة الإسرائيلية حالا دون ذلك. وكذلك يدعو عدد من الوزراء على رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش إلى شن حرب على حزب الله وإيران.
في هذه الأيام، يزداد التوتر لدرجة أن حكومة اليمين المتطرف تستعد لإصدار قرار يضع عودة المهجرين من شمال إسرائيل إلى بيوتهم بوصفه أحد أهداف الحرب، وما يعنيه ذلك من نية للتصعيد، سواء على الجبهة الشمالية، أو بعد إطلاق صاروخ باليستي فرط صوتي يمني قطع 2000 كيلومتر خلال 15 دقيقة، وتعهد نتنياهو برد قوي عليه، ولم تتمكن الدفاعات الأميركية والأطلسية والإسرائيلية من إسقاطه، وهو بداية للرد اليمني على العدوان الإسرائيلي على الحديدة.
هل ستندلع الحرب على الجبهة اللبنانية وتتحول إلى حرب إقليمية، أم تبقى في الحدود الحالية، أم تتصاعد قواعد الاشتباك، ولكن تبقى دون مستوى الحرب الإقليمية؟
الجواب السريع والمباشر عن هذا السؤال: من المستبعد أن تتحول الحرب إلى إقليمية، من دون أن يعني هذا الاستبعاد استحالة حدوث ذلك، والاستبعاد يعود للأسباب الآتية:
أولًا: أن الولايات المتحدة الأميركية وضعت الفيتو على أي حرب تشنها إسرائيل على إيران؛ لأنها تخشى من عواقب هذه الحرب كونها غير مضمونة النتائج في ظل انتشار حلفاء إيران في بلدان عدة واستعدادهم للمشاركة فيها. وكذلك لأنها تعتقد بأنها قادرة على احتواء مخاطر إيران عبر السعي لتغيير نظامها أو دفعه على تغيير سياساته عبر الحصار والعقوبات وبث القلاقل الداخلية. ويضاف إلى ذلك الخشية من احتمال أن تتحول الحرب إلى عالمية، في ظل احتدام الصراع الأميركي الصيني على قيادة العالم، وتحسبًا من أن تكون الحرب مدخلًا لزيادة النفوذ الصيني في المنطقة حتى لو لم تتحول إلى حرب إقليمية. وكذلك لأن واشنطن مشغولة بالحرب في أوكرانيا وفي استكمال تحقيق مخططها بمحاصرة الصين سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
وتأكيدًا لعدم الموافقة الأميركية على الحرب الإقليمية، قام الرؤساء الأميركيون باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن برفض كل الطلبات الإسرائيلية بشن الحرب على إيران، وخصوصًا استهداف المفاعل النووي، على الرغم من وصول إيران إلى عتبة التحوّل إلى دولة نووية.
كما أن الإدارة الأميركية الحالية لا تريد حربًا إقليمية الآن ولا حتى مع المقاومة اللبنانية وحدها عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تشهد منافسة حادة، وأي حرب ستؤثر في فرص كامالا هاريس بالفوز؛ لأنها ستؤدي إلى رفع الأسعار والتضخم، وهذا العامل يؤثر بشدة في قرار الناخب الأميركي.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الإدارات الأميركية منحت تفويضًا كاملًا للحكومات الإسرائيلية للتعامل مع الفلسطينيين، ولكنها احتفظت بالقرار بخصوص التعامل مع إيران، لذلك تحاول حكومة نتنياهو جر واشنطن إلى الحرب التي لا تستطيع خوضها والانتصار فيها وحدها.
ثانيًا: إيران لا تريد حربًا إقليمية؛ لأنها تدرك أنها تتقدم في المنطقة بصورة أفضل من دون حرب أو مع حرب استنزاف لا أكثر، خصوصًا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي سيخوضان الحرب إلى جانب دولة الاحتلال، وهذا يعني أن توازن القوى سيكون مختلًا ضد طهران، وهذا لأن الثمن الذي ستدفعه إيران من أي حرب إقليمية سيكون كبيرًا جدًا.
صحيح أن إيران أحدثت نوعًا من توازن الردع، ولكنه لا يعني توازنًا للقوى وإلغاء للتفوق العسكري الغربي الاستعماري، خصوصًا في ظل عدم تطور علاقاتها مع بكين وموسكو إلى مستوى العلاقات الأميركية الأطلسية مع إسرائيل، وأكبر دليل على العلاقات العضوية ما حدث في شهر نيسان الماضي حين شاركت القوات الأطلسية وأطراف إقليمية في التصدي للصواريخ والمسيرات الإيرانية التي أطلقت نحو إسرائيل.
ثالثًا: أن دولة الاحتلال لا تستطيع أن تخوض وحدها حربًا ضد إيران أو حزب الله؛ نظرًا إلى الخسائر الفادحة المتوقعة، ولعدم القدرة على حسمها والتحكم فيها والانتصار فيها، فما كان سائدًا قبل السابع من أكتوبر من تصورات عن تفوق إسرائيل وإمكاناتها العسكرية أصبح مختلفًا الآن. فدولة الاحتلال ظهرت أضعف بكثير مما تعتقد، وما يعتقده الآخرون، أعداؤها وأصدقاؤها، واتضح أنها دولة قابلة للهزيمة، وخسرت قوة الردع، ولا تقوى على حسم الحرب حتى مع حركة حماس وبقية قوى المقاومة الفلسطينية على الرغم من بلوغها نحو عام كامل، فكيف إذا انضم حزب الله وبقية القوى في محور المقاومة. الدليل على ما سبق أنها لم تحسم ولم توقف الحرب المحدودة على الجبهة الشمالية على الرغم من الاستنزاف الكبير الذي تسببه، والخسائر الفادحة التي أدت إليها.
نعم، إسرائيل قوية، ومن الخطأ التقليل من قوتها ولا المبالغة بها، ولكنها أقل مما كان يعتقد، وكذلك فهي لا تستطيع أن تقوم بالدور المطلوب منها في المنطقة بوصفها حامية للنفوذ والمصالح الاستعمارية، ولم تعد قادرة على حماية نفسها وحدها. وهذا فتح النقاش بشكل أكبر من السابق بشأن هل إسرائيل ذخر إستراتيجي للمعسكر الاستعماري، أم تتحول شيئا فشيئا إلى عبء استراتيجي؟
تأسيسًا على ما سبق، فإن امتناع إسرائيل عن توجيه ضربة كبرى لحزب الله أو إيران، أو لكليهما، ليس كرم أخلاق، وإنما يرجع إلى عدم القدرة على تحقيق الانتصار، وناجم كذلك عن الخوف من الخسائر الفادحة، وخصوصًا الآن بعد نحو عام من حرب استنزفت الجيش والاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي؛ ما أوجد رأيًا قويًا، لا سيما داخل جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية، يدعو إلى وقف الحرب الآن عبر عقد صفقة تبادل، ثم أخذ فرصة لالتقاط الأنفاس وإعداد العدة لحرب استباقية ضد حزب الله ستكون فيها مزايا كبيرة لأنها ستكون مباغتة، أما الحديث عن التصعيد فهو يهدف حتى الآن إلى زيادة وتيرة المعارك وليس الذهاب إلى حرب شاملة.
إذا كان ما سبق يستبعد الحرب الإقليمية، فإنه لا يستبعد تصعيد الحرب المحدودة إلى دون مستوى الحرب الإقليمية، ولكن هذا بحد ذاته؛ أي استمرار حرب الاستنزاف بوتائر أعلى، ينطوي على خطر متزايد بالانزلاق إلى حرب إقليمية، وخصوصًا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تدرك - ليس من أجل بقائها وتجنب التحقيق معها ومحاكمتها على الإخفاق التاريخيّ في طوفان الأقصى فقط، ولكن لأسباب أيديولوجية ودينية وسياسيّة - أهمية أن تخرج منتصرة من هذه الحرب؛ لأن هزيمتها أو وقف الحرب بلا منتصر ومهزوم سيضع علامة سؤال بشأن إمكانية قيام دولة الاحتلال بدورها الوظيفي، وهذا يطرح علامة سؤال لاحقة حول أهمية استمرار وجودها في ظل التكلفة العالية التي تسببها.
[email protected]