نشرت بعض وسائل الاعلام العالمية تصريحا غريبا على لسان الرئيس الأمريكي بايدن، بعد محادثته الهاتفية مع البابا فرنسيس يوم الأحد الأخير، والتي تمحورت حول الحرب الدائرة في غزة قال فيها بايدن: "إن البابا فرنسيس يؤيد بشكل شامل الخطة الأمريكية بشأن حرب إسرائيل وغزة، وأضاف بايدن "البابا وأنا نتوافق الرأي". بالمقابل أعلن مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، أن "البابا فرنسيس أجرى بعد ظهر الأحد ٢٢ تشرين الأول أكتوبر مكالمة هاتفية مع الرئيس الأمريكي جو بايدن استمرت حوالي ٢٠ دقيقة. وكانت أوضاع النزاع في العالم محور هذه المكالمة حيث شدد الأب الأقدس على ضرورة تحديد مسيرات سلام".
إن ما أقدم عليه بايدن أقل ما يقال فيه أنه يسبب حرجا للبابا، وأظن أن هذه أول مرة يقدم فيها رئيس دولة على كشف موقف البابا بعد محادثة شخصية بينهما، واذا كان بايدن لا يهدف إلى احراج البابا، بل يهدف إلى دعم وتبرير موقفه المعلن ومشاركته في الحرب على غزة فان هذا أسوأ من سابقه، حيث يلجأ إلى الاتكاء على البابا لما لمركزه ومكانته العالمية من مصداقية، وهذا أمر خطير يستدعي بيانا جديدا من مكتب الصحافة في الفاتيكان وعدم الاكتفاء بما جاء في البيان الأول.
من يتابع تصريحات ومواقف البابا فرنسيس من قضايا صراعات إقليمية في أكثر من مكان في العالم يستغرب تفسير مواقفه المختلفة. ومنذ أن اندلع الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا لاحظنا بأن البابا لم يوفر مناسبة وبشكل متواتر على اعلان موقفه المساند لأوكرانيا والمنتقد لروسيا، بينما صمت أو أصدر بيانات خجولة لا ترتقي لمستوى الحدث كما حصل أخيرا في الصراع العسكري بين إسرائيل وحركة "حماس" الفلسطينية.
ما يثير الاستغراب في مواقف البابا أنه أكثر من الحديث عن الحرب في أوكرانيا داعيا وضع حد لها، بل واتخذ موقفا معارضا لروسيا ومؤيدا لأوكرانيا دون التعمق في أسباب الخلاف والنزاع بين البلدين، وبالتالي جاء موقفه مطابقا –إلى حد كبير- لمواقف الولايات المتحدة وحلف الناتو الاستعماري. وخلال الحرب في أوكرانيا وقعت عدة أحداث تخص المسيحيين العرب في البلاد المقدسة وتعرضهم لاعتداءات ومضايقات شبه يومية، لم نسمع فيها صوت البابا بالقوة التي سمعناها منه في أوكرانيا. وإذا ما أردنا التخصيص أكثر، فان ضحايا الاعتداءات في الأرض المقدسة غالبيتهم من الكاثوليك أي من أتباع كنيسة البابا، بينما ضحايا الحرب في أوكرانيا من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الموازية للكنيسة الكاثوليكية، أفلا يستحق أتباع المذهب الكاثوليكي – الذي يرأسه البابا فرنسيس- من قداسته، ذات الاهتمام الذي يوليه لأتباع الكنيسة الأرثوذكسية في العالم؟
وأول ما لاحظناه وامتنعنا في حينه من الإشارة إليه، هو مقتل الصحفية الفلسطينية المسيحية الكاثوليكية (الحاملة للجنسية الأمريكية) شيرين أبو عاقلة عند مدخل مخيم جنين على يد أحد القناصة الإسرائيليين يوم 11/5/2022، هذا الحادث الذي أحدث هزة رأي عام في العالم لم تلق ذاك الاهتمام من قبل البابا إلا بعد وقت طويل وبعدما قامت عائلة شيرين بزيارته، وحتى بعد ذلك لم يتخذ موقفا قويا من مقتلها.
بعدها وقعت عدة اعتداءات على أديرة وكنائس واكليروس في الأرض المقدسة، خاصة سلسلة الاعتداءات التي تعرض لها دير مار الياس في حيفا، والواقع على قمة جبل الكرمل، مما استدعى الكنائس المحلية للتجند والعمل على حماية الدير، تحت ضغط الحركة الشبابية التي هبت في مخلف القرى والمدن والتي نظمت التظاهرات القوية في حيفا، تصديا للمعتدين ونواياهم الخبيثة لتدنيس الدير. ورغم مطالبة أوساط مسيحية عديدة بسماع موقف واضح للفاتيكان، إلى أن هذا لم يحصل وبقي الفاتيكان يعمل بأسلوبه الدبلوماسي الهاديء.
وفي مسألة الاعتداء على رجال الدين خاصة في مدينة القدس، وتعرضهم الدائم للبصق والشتائم ومحاولات نزع الصلبان عن ثيابهم الكهنوتية من قبل جماعات يهودية، متدينة، متطرفة على مرأى ومسمع المارة إضافة إلى قوات الأمن الإسرائيلية، تلك الاعتداءات التي ازدادات في الأشهر الأخيرة في ظل الحكومة الإسرائيلية، اليمينية، المتطرفة. هنا أيضا لم نسمع أي صوت أو رأي لقداسة البابا، خاصة وأن عددا من المتعرضين لتلك الاعتداءات هم من أبنائه، ووقعت في أهم مدينة مقدسة بالنسبة للمسيحيين والعالم الكاثوليكي بأسره.
بالمقابل رأينا أن رؤساء الكنائس في القدس والأراضي المقدسة اتخذوا المواقف الواضحة والجريئة في الدفاع عن مؤمنيهم ومقدساتهم، بينما بقي الفاتيكان خلف الستارة يتابع ولا يتدخل. حتى بعد تعرض المستشفى المعمداني في غزة للقصف، وبعده كنيسة القديس بيرفيوس الأرثوذكسية ومقتل العشرات من المسيحيين من أبناء غزة (وعددهم الإجمالي لا يتجاوز المئات)، لم نسمع صوتا واضحا للبابا في إدانة تلك الأعمال المخالفة للانسانية، بينما لم يتأخر في اطلاق المواقف واصدار البيانات كلما وقع جديد على صعيد الحرب في أوكرانيا.
من هنا نطالب قداسة البابا، ومن منطلق محبتنا له وتقديرنا لدوره، بأن يوضح لنا أسباب اتخاذه مواقف تجاه الحرب على أوكرانيا وبالمقابل يصمت عن اعلان موقف تجاه الحرب على غزة؟ كيف يفسر لنا صمته عن الاعتداءات على المسيحيين في الأراضي المقدسة ومقدساتهم؟ لماذا لم يهتم بمقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة؟ لماذا يهمل قضايا المسيحيين العرب في الأراضي المقدسة؟ هل بات للفاتيكان مواقف سياسية تتماشى مع الغرب، أم أن هناك ضغوط غربية تمارس على الفاتيكان؟ وهل فعلا يؤيد البابا فرنسيس "بشكل شامل الخطة الأمريكية بشأن حرب إسرائيل وغزة"، كما أعلن بايدن؟ من حقنا –كمؤمنين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية في الأراضي المقدسة- أن نسمع توضيحات شافية من قداسة البابا.
[email protected]