مرّت في الشهر الأخير من العام 2022، الذكرى السنوية الـ 35 لانطلاق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تلك الانتفاضة التي عرفت باسم "انتفاضة الحجارة" ولاقت تعاطفا شعبيا ودوليا كبيرين. وبعد انطلاق الانتفاضة بأيام أعلن رسميا فيالفاتيكان عن تعيين الأب اللاتيني ميشيل صباح، بطريركا على أبرشية القدس والأراضي المقدسة. وكان ذلك القرار بمثابة اعلان دخول "حقل ألغام" للبطريرك الجديد، فهو كاهن عربي فلسطيني تم ترفيعه مباشرة إلى سدة البطريركية دون عبور سدة المطرانية، وهو أول كاهن عربي فلسطيني يتولى هذا المنصب في تاريخ الأبرشية، وجاء ذلك بعد أيام على انفجار الانتفاضة الفلسطينية، وعلى البطريرك الجديد أن يجيد السير بين النقط متفاديا البلل.
ومنذ اليوم الأول لتعيينه في هذا المنصب، أظهرت الأوساط الإسرائيلية الحاكمة انزعاجها من هذا القرار، الذي لم تكن راضية عنه بطبيعة الحال، لذا تعاملت مع البطريرك الفلسطيني الأول في القدس بجفاء وخصومة، وحاولت جاهدة عرقلة عمله وتحركاته والتضييق عليه في أداء واجباته الكنسية، ومحاولة تأليب جمهور المؤمنين عليه وحتى كهنته من خلال التضييق على حرية تنقل وإقامة الكهنة، وخاصة بين الأردن وفلسطين وإسرائيل من ناحية، وإظهار البطريرك صباح كبطريرك سياسي مناويء لإسرائيل على ضوء انتقاداته وملاحظاته العلنية للسطات الإسرائيلية في فترة الانتفاضة.
لكن البطريرك ميشيل صباح وبحكمته وصبره ورؤيته النافذة لم يقع في حبال المخططات الإسرائيلية، وحاز على مكانة عالية في أوساط السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس المرحوم ياسر عرفات، الذي أحب البطريرك وقدّر مواقفه حق قدرها واحترمه بشكل واضح، وكان يدعوه إلى مقر الرئاسة في رام الله للاستنارة برأيه وبعد نظره، ولم يتأخر عن تلبية دعوته لحضور قداس منتصف الليل في بيت لحم ليلة عيد الميلاد، ولم يؤخره عن ذلك سوى منع السلطات الإسرائيلية له، حيث أبدت انزعاجها الشديد لهذه العلاقة الوثيقة بين الرجلين، لما يمثلانه على الصعيدين السياسي والديني وتأثير ذلك على الشعب الفلسطيني وتدعيم وحدته الوطنية.
وخلال جلوسه على كرسي البطريركية المقدسية على امتداد عقدين من الزمان، قدم غبطة البطريرك خدمات جمة للشعب الفلسطيني خاصة خلال انتفاضته الأولى وبعدها، ورعى المشاريع الإنسانية والتربوية والصحية التي عادت بالفائدة على أبناء الشعب كله دون تفرقة بين أبناء ديانة وأخرى. وبعد تقاعده واصل البطريرك صباح حمل الأمانة والرسالة، فهو كان قبل تعيينه بطريركا وأثناء ذلك وبعده رئيسا لمجلس أمناء "مركز اللقاء للدراسات الدينية والتراثية" في بيت لحم، والذي كان أبرز مؤسسيه ومديره السابق الراحل الدكتور جريس سعد خوري، هذا المركز الذي عمل على تعزيز الحوار الإسلامي – المسيحي وقيم العيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد. كما أسس غبطته مع عدد من رجال الدين المسيحيين والأكاديميين مجموعة "كايروس فلسطين – وقفة حق"، وما زال يسعى لتكوين مجموعات مسيحية – إسلامية مشتركة في أكثر من موقع ومنطقة فلسطينية وغيرها من النشاطات التي تصب في تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخها.
مقابل ذلك كله بادل الشعب الفلسطيني غبطته الحب بالحب والاحترام بالاحترام، فكنت أينما ذهبت وحللت تشعر مدى التقدير والاحترام اللذين يكنهما أبناء الشعب الفلسطيني لغبطته، ولم يكن بالتالي غريبا أن تمنح مؤسسة "ياسر عرفات" في أول عام لها جائزتها للبطريرك ميشيل صباح، وتوالت التكريمات المشابهة وفقط في العام الأخير، بل الشهر الأخير منه، شاهدنا نماذج لها مثل التكريم الذي نظمته جامعة القدس في مدينة بيت لحم، والذي أعلنت فيه إدارة الجامعة عن اطلاق منحة تعليمية باسم البطريرك صباح تقديرًا لجهوده وتخليدًا لاسمه ودوره ورسالته في خدمة الوطن والإنسانية، وقال فيه رئيس الجامعة، د. عماد أبو كشك "إن البطريرك صباح شخصية دينية بارزة ووطنية بالمعنى النضالي وشخصية فلسطينية عالمية وفريدة في نضالها ومواقفها الوطنية وتأثيرها في المجتمع والعالم".
وبعد أيام قليلة قام رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية بزيارة البطريرك ميشيل صباح في مكان إقامته في قرية الطيبة، شرق رام الله، حيث هنأه والشعب الفلسطيني بمناسبة حلول أعياد الميلاد المجيدة، وقام بتكريم البطريرك صباح "لدوره النضالي والوطني والإنساني والاجتماعي لنصرة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في العالم أجمع."
ويبقى تكريم الشعب الفلسطيني بأسره، لابن هذا الشعب البطريرك ميشيل صباح أفضل وأكثر تعبيرا من كل تلك التكريمات على أهميتها، لأنه تكريم نابع من القلب بصدق صاف ووفاء نقي لشخصية مميزة ومخلصة لشعبها ووطنها.
-
الكاتب منسق أعمال لقاء الجليل للحوار والعيش المشترك
[email protected]