بقلم عيسى سعد الله
يوماً ليس كمثله يوم، قبل أربعة عشرة عاماً بالتمام والكمال، وفي تمام الساعة الحادية عشر والعشرين دقيقة صباحاً، استفاق سكان قطاع غزة المحاصرون في يوم سبت دام على هجوم جوي إسرائيلي هو الأكبر منذ اخر حرب شنتها إسرائيل على الدول العربية في عام 1967، طال جميع المواقع العسكرية والشرطية للمقاومة لحركة حماس التي لم يمض حينها على استلامها غزة بالقوة العسكرية اكثر من عام ونصف، احتاج المواطنون لدقائق واكثر لمعرفة ما حصل من هول الصدمة وشدة الانفجارات التي دوت في جميع المناطق السكنية والزراعية والبحرية، وكانت النتيجة مئات الشهداء والاف الجرحى وعشرات المباني والمواقع المدمرة، الحياة بدت في غزة وكأن زلزال ضربها، المواطنون الذين كانوا يمارسون حياتهم كالعادة بدؤوا اشبه بالتائهين في معلب كورة قدم، الكل يهرع ويجري ولا يعرف ما الذي حصل، القلق كان اكبر على طلبة المدارس والجامعات ورياض الأطفال، هرع المواطنون باتجاهها للاطمئنان على أبنائهم واصطحابهم الى البيت، السائقون احتاجوا لوقت للتعرف على الطرق السالكة بعد ان اغلق الدمار الهائل وجثامين الشهداء العديد من الشوارع، في هذه اللحظات كنت اجلس في مستشفى جمعية أصدقاء المريض وسط حي الرمال بمدينة غزة، وكنت للتو انتهيت من كتابة ورقة تقدير موقف لاحد أعضاء المجلس التشريعي وقيادي بارز في تنظيمه بناء على طلبه، وقبل اقل من خمس دقائق من الهجوم الإسرائيلي الكاسح، ولم يكد المسؤول الاتمام من قراءة الموقف، والذي كان مضمونه توقع عدوان إسرائيلي بحد اقصى يوم الاثنين، حتى بدأت على مسامع الجميع تدوي الانفجارات القوية والتي هزت المكان، ما دفعنا الى الخروج من المستشفى للتعرف اكثر على طبيعة الانفجارات، والا بالانفجارات تزداد حدة وتقترب من المستشفى وبشكل خاص في مدينة عرفات للشرطة التي تبعد عشرات الأمتار فقط، وتضم قيادات الأجهزة الشرطية والأمنية، هرعت مسرعاً الى المنطقة، والا بعشرات الجثث المقطعة لافراد الشرطة وبينهم القائد العام للشرطة متناثرة في المكان بشكل يصعب التعرف على أصحابها بعد ان باغتتهم الطائرات بعدة صواريخ وهم يمارسون عملهم ويؤدون تمارين الصباح، عشرات سيارات الإسعاف هرعت الى المكان لنقل الجثث، وسط فوضى عارمة بالمكان فيما انشغل مواطنون اخرون بتفقد مواقع أخرى في المنطقة والتي طالتها الهجمات التي بلغت تسعين غارة في اقل من دقيقة ونصف، انهارت شبكة الاتصالات الخليوية ولم يعد بالإمكان اجراء أي اتصالات، اضطررت للعودة للمنزل الذي يبعد أربعة كيلو متر للاطمئنان على العائلة، وفي طريقي واذا بالاف الجنود يخرجون من موقع السرايا وسط حي الرمال، حيث حال القدر دون ارتكاب مجزرة بشعة لو تم قصف المكان، حيث اخبرني احد الضباط الذي خرج بجنوده الى الشارع الرئيسي انه كان يتواجد في المقر الذي يقع على مساحة 35 الف متر مربع اكثر من الفي جندي من قوات الامن المختلفة والجيش وبحمد الله انه لم يقصف، وتم اخلائه في اقل من دقيقتين، الا ان الحال كان اقسى واصعب في جميع المواقع الأخرى، وكانت القصص مذهلة وتتسبب بالغثيان، مواطنون يتفاجئوا بجثث أبنائهم واخرون يجدون صعوبة بالتعرف عليها، مواطنون هرعوا للمستشفيات وثلاجات الموتى التي لم تتسع للجثث، وقد تم وضعها في الساحات والشوارع المجاورة بانتظار وصول الأقارب لدفنها، لم يكن العمل بالنسبة للصحافيين سهلاً مع انقطاع التيار الكهربائي وسقوط شبكة الانترنت وتعذر الحركة بسبب امتلاء الأجواء بالطائرات التي لا تتردد في ضرب أي هدف متحرك، ولم تمض ساعات الا واعادت المقاومة لملمة صفوفها وبدأت بهجوم معاكس واستهلته بامطار المدن الإسرائيلي في محيط غزة بعشرات الصواريخ، لتشتد المواجهة وتبدأ وجبات أخرى من القصف الجوي والمدفعي الذي تركز بشكل خاص في محافظتي غزة وشمال غزة ويمتد الى اكثر من عشرين يوماً تخلله هجوماً برياً كاسحاً وماسحاً لشرق بلدة جباليا وشمال بلدة بيت لاهيا وجنوب مدينة غزة، أدى الى تدمير هذه المناطق بشكل كامل وتشريد أصحابها في مشهد أعاد للاذهان للمرة الأولى النكبة والنكسة، وادت المعركة الى استشهاد اكثر من 1200 مواطن واصابة الالف وتدمير الاف المنازل والمصانع والمرافق الأخرى، لتكون الحرب الأولى الذي يتعرض لها سكان القطاع ولتبدأ بعدها سلسلة حروب طاحنة بمعدل حرب واحدة كل اربع سنوات أدت الى استشهاد واصابة عشرات الاف المواطنين وحولت الحياة الى جحيم لا يطاق، لم يكن وقوع الحرب بعيداً سيما بعد التصريح الخطير لوزير الخارجية آنذاك تسفني ليفني من القاهرة، ولكن الجميع لم يكن يتوقع ان تشنها إسرائيل يوم السبت بسبب قدسيته عند اليهود.
[email protected]