مطلع كانون اول الجاري قام وفد ضم نحو ألف قس إنجيلي أميركي بزيارة لموقع أثري على تلة محاذية لمستوطنة "شيلو" . فوق تلك التلة كانت تقوم قرية أو " مدينة " شيلو الكنعانية . الزيارة ، التي كانت بتمويل من حكومة بنيامين نتنياهو تحولت إلى منصة للدعاية السياسية السخيفة ، فقد حمل الوفد رسالة سياسية تدعو لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. خلال التجمع الرئيسي في الموقع الأثري ، خاطب القس، مايك إيفنز، المشاركين ودعاهم إلى إظهار دعم قوي لنتنياهو وحكومته أمام الكاميرات : "رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو طلب صورة، ونحن سنمنحه الصورة التي يريد ". ولوّح بكتاب التوراة مخاطبًا جيه دي فانس ، نائب الرئيس الاميركي : "هذه ليست سياستك ولا سياستي ، هذه كلمة الرب ؛ يهودا والسامرة هي أرض الكتاب المقدس، فلا تضغط على إسرائيل لتقديمها لأعداء اليهود ". في جولته في الموقع رافق الوفد رئيس ما يسمى المجلس الاستيطاني "بنيامين"، يسرائيل غانتس، الذي قدّم نفسه أمام القساوسة كمن يطبّق السيادة فعليًا، ووصفهم بسفراء " يهودا والسامرة "، وطالبهم "بمساعدة إسرائيل في واشنطن".
نتنياهو مغرم بالصور والدعاية السياسية ومغرم أكثر ، خاصة هذه الأيام ، ببث الروح في الأساطير . احداثها لا توحي بالنسبة له بأنها مستمدة من الأساطير ، بل من قدرة قادر على تحويل الاسطورة الى حدث فعلي . مملكته الاسطورية تذهب بعيدا في التاريخ ، الى ما قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ، أما دولة اسرائيل الجديدة فهي عودة الروح الى تلك المملكة ، مملكة شاؤؤل وداوود وسليمان . كان نتنياهو قد بث الروح ذلت مرة في قطعة نقدية ونشرها في آب من العام 2017 على حسابه على " فيسبوك " وادعى انها اكتشاف مثير ودليل آخر على الارتباط العميق بين شعب إسرائيل ومملكته القديمة خاصة انها تعود حسب زعمه إلى أيام الهيكل الثاني قبل ألفي عام ، ليتبين سريعا فيما بعد أن القطعة المذكورة تذكار للأطفال صكت بمبادرة من متحف إسرائيل قبل حوالي 15 عاما من ذلك التاريخ .
قطعة نتنياهو النقدية كانت لعبة أطفال ، عكس القطعة النقدية ، التي عرضها سفيره في الامم المتحدة ، داني دانون ، في نفس العام كعملةً أثرية تثبت الحق التاريخي لليهود في فلسطين، دون ان ينتبه ان لغة تلك القطعة كانت ارامية ، الوجه فيها يمثل ورقة وفرع شجرة عنب كتب عليه ( يوم حرث )، أما الظهر فيها فكان يشير الى (سنة ستين) ، قطعة سكت على الارجح بمناسبة يوم أو عيد زراعي لا علاقة له بأساطير نتنياهو أو اساطير داني دانون .
وعودة الى " شيلو " ، فقد أرسل نتنياهو بعثته القساوسة الانجيليين إلى المكان ، يطلب منهم صورة لذلك العدد الكبير من المشاركين في زيارة لموقع أثري لم يعثر فيه نتنياهو على ضالته ، لا قطعة نقود مزورة ولا قطعة نقود حقيقية ، فشيلو كانت كنعانية منذ تأسيسها في العصر البرونزي ( 1750 – 1650 قبل الميلاد ) واستمرت على حالها كنعانية حتى في زمن يوشع بن نون وفي زمن الكاهن عالي والكاهن صموئيل ، الذي تعتبره الكنيسة أعظم انبياء اسرائيل . كثيرون نقبوا في تاريخ شيلو وآثارها والجميع أجمع أنها كانت في زمن بن نون قليلة السكان ، قرية كنعانية صغيرة على تلة متواضعة ، تحولت الى أول عاصمة لبني اسرائيل ، الذين لم يستوطنوها أصلا . وفقًا للبروفيسور إسرائيل فينكلشتاين، عالم الآثار الذي نقّب في شيلوه في أوائل ثمانينيات القرن العشرين ، ورجح أن شيلوه قد أُحرقت ودُمّرت خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد ، وعندما وصل بنو إسرائيل إلى كنعان كانت شيلوه على الأرجح قليلة السكان .
ومع ذلك وبحسب سفر يشوع، اجتمع بنو إسرائيل في شيلوه في السنوات الأولى لدخولهم " أرض الميعاد " ست مرات على الأقل ، وفيها تم حسب الاساطير نصب " خيمة الاجتماع " ، حيث تابوت العهد ، في إشارة إلى أنها كانت " أول عاصمة لإسرائيل " . ومن هنا بدأت الروايات تتوارد بأن تلك القرية الوادعة تحولت إلى مركزً ديني في زمن يوشع بن نون نفسه . كثيرة هي التنقيبات ألأثرية ، التي جرت في المكان ، الذي يقع ضمن أراضي قريوت الفلسطينية ، وفيها تم العثور على آثار متنوعة ، أبرزها المسجد العمري العباسي القديم، وكنيستان بيزنطيتان مزينتان بالفسيفساء، بالإضافة إلى بقايا كنعانية ورومانية مثل الآبار والمغارات وآثار أخرى تشهد على حضارات متعاقبة ، وفيها عثر علماء الآثار على عظام حيوانات قربانية وأوانٍ طقسية ، فسرها بعض علماء الآثار الاسرائيليين ، مثل البروفيسور فينكلشتاين، على أنها كنعانية ، فيما ذهب غيره مذهبا آخر واعتبرها دليلا على نشاط ديني على صلة بما ورد في أساطير " الكتاب المقدس " وهكذا تم اسقاط الاسطورة على عظام حيوانات قيل انها قدمت كقرابين
ونسجت الاساطير حول شيلو أمورا خيالية كثيرة ، وبصفتي ابن تلك المنطقة واعرفها جيدا فقد حملت تلك الاساطير ، شيلو ما ليس لها طاقة به . قالت الاساطير أن شيلوه تمتعت بظروف صوتية مثالية. من اجل إضفاء البهجة على اختراع الاسطورة ، أجرى مهندس صوت ، يدعى مارك ميلز في سبعينيات القرن الماضي، اختبارات صوتية في شيلوه. ووفقًا لنتائجه، كان مستوى الضوضاء المحيطة في شيلوه أقل بكثير من مستوى الضوضاء المثالي المطلوب لأفضل قاعات الحفلات الموسيقية ، قال ذلك المهندس إن شيلو أهدأ بقعة قاسها على الإطلاق ، هادئة لدرجة سماع صوت بشري بوضوح من مسافة تزيد عن 500 متر. يبدو أن طبيعة شيلوه ومحيطها تُتيح للصوت أن ينتقل لمسافات شاسعة . وعلى هذا الاكتشاف المدهش ، وهو شبيه باكتشافات بنيامين نتنياهو ، اسقط مار ك ميلز اسطورة مخاطبة يوشع بن نون آلاف الناس في شيلو ليضفي مصداقية على الرواية التوراتية .
كثيرة هي الاساطير حول " شيلو " القرية الكنعانية الصغيرة على قمة تلة متواضعة ، بعض تلك الاساطير تتصل بخيمة الاجتماع دون الاتفاق على مكان محدد لتلك الخيمة ، هل هو في مركز القرية أم على أطرافها ، او تلك التي تتصل بعظام الحيوانات التي عثر عليها ولم تتجاوز نسبة عظام الخنازير فيها واحدا بالمئة . تلك أساطير مشوقة ، غير أن أكثرها تشويقا هو ذلك الدور ، الذي لعبته شيلو في إنقاذ سبط بنيامين من الهلاك . تقول الاسطورة ، بعد حرب أهلية دامية بين سبط بنيامين وبقية اسباط إسرائيل ( قضاة 19- 20 )، لم ينجُ سوى 600 بنياميني . وللحيلولة دون هلاك سبط بنيامين، احتاج بنو إسرائيل إلى إيجاد زوجات لهؤلاء الرجال . ( لم تخبرنا الاسطورة عن نساء سبط بنيامين وماذا حل بهن في تلك الحرب الأهلية ) . فوضعوا خطة ماكرة . ففي عيد سنوي، اعتادت " بنات شيلوه " الكنعانيات الرقص في مرجٍ قرب مدينتهن . هنا اقترح بنو إسرائيل أن يتربص رجال بنيامين ويختطفوا صبايا شيلو الجميلات أثناء رقصهن . وبتنفيذ تلك الخطة، تم إنقاذ سبط بنيامين من الانقراض . هذه " الحقيقة " الاسطورية أخفاها بنيامين نتنياهو للأسف عن الوفد ، الذي ضم ألف قس انجيلي ، جلبه نتنياهو من الولايات المتحدة للقيام بزيارة عاصمة وهمية ، كان سكانها من الكنعانيين .
[email protected]