على الرغم من أنّ الوقوع في لعبة الرهان على معسكر دون آخر في إسرائيل خاسرة تمامًا، كونها تحبط إمكانات النهوض بالعامل الفلسطيني، وهو العامل الوحيد الذي يمكن أن يحدث التأثير المطلوب، وتوحي بالقدرة على التأثير اعتمادًا على لحظة عابرة مؤقتة ناجمة عن اختلاف اليمين على شخصية نتنياهو، وفي ظل انحسار الفوارق بين الأحزاب، وسيطرة الاتجاهات والعناصر المتطرفة التي تعمل على تصفية القضية الفلسطينية بأشكال مختلفة؛ فإنّه لا بد من متابعة الانتخابات الإسرائيلية؛ لأن كل ما يجري في إسرائيل سلبًا أو إيجابًا يؤثر في فلسطين كما العكس صحيح.
وهناك آراء فلسطينية وعربية متعددة في هذا الأمر (الانتخابات)، شأنها في مختلف الأمور، فهناك من يفضل أن تحكم إسرائيل حكومة متطرفة عنصرية، لتدفن كما يرى البعض أوهام إحياء ما سمي "عملية السلام" وخيار المفاوضات للتوصل إلى "حل الدولتين"، وهي أضغاث أحلام، فـ"عملية السلام" ماتت ولا يمكن إحياء العظام وهي رميم، ويفضلها البعض الآخر؛ لأنه يراهن على أن فاشية إسرائيل وتطرفها من شأنه أن يقلب العالم أو الدول والأطراف الديمقراطية والليبرالية والتقدمية ضدها. وهذه وجهة نظر تتجاهل المعاناة الرهيبة المترتبة على سياسات وإجراءات مثل هذه الحكومة المتطرفة على الفلسطينيين والمنطقة ككل، وأن العالم مشغول بأزمات أخرى، وهو يسير خصوصًا الغربي نحو اليمين وانتشار النزعات الفاشية والمتطرفة، ويتسامح مع المجموعات الفاشية، مثلما حصل بتسامحه مع الجماعات الفاشية في أوكرانيا.
كما تفضّل أوساط فلسطينية وعربية حكومة يمين وسط يسار، مثل حكومة يائير لابيد الحالية، كونها أقل تطرفًا، متجاهلًا أن الأحزاب اليمينية المشاركة فيها تملك حق الفيتو؛ ما يلغي أي إمكانية لتمايز حقيقي بينها وبين حكومة يمينية، فضلًا عن أن الفروق الجوهرية إن وجدت بين هذه الحكومة وحكومة نتنياهو لا تتعلق بالقضية الفلسطينية وكيفية التعامل مع الفلسطينيين؛ إذ ينحصر الفرق هنا في الشكل حين يتحدث لابيد معسول الكلام عن "حل الدولتين" لذر الرماد في العيون، من دون تقديم خطة، وإنما يفعل كل ما من شأنه أن يقضي على أي احتمال بقيام دولة فلسطينية، ولعل التصعيد العدواني بكل أشكاله في الضفة الغربية وضد قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة، يظهر أنها حكومة تزايد على حكومة اليمين من حيث ممارساتها العملية.
حكومة برئاسة نتنياهو أو برئاسة لابيد "وجهان لعملة واحدة"
الخلاصة أن الطرفين "وجهان لعملة واحدة"، وباتت هذه العبارة تنطبق أكثر من أي وقت مضى على تشكيل حكومة يمينية برئاسة نتنياهو، أو مختلطة برئاسة غانتس أو لابيد.
على الرغم مما سبق قد تكون الانتخابات الإسرائيلية نقطة تحول إلى الأسوأ إذا استطاع بنيامين نتنياهو تشكيل حكومة، بمشاركة أحزاب اليمين المتطرف، خصوصًا حزب الصهيونية الدينية، وهذا أمر لا ترجحه الاستطلاعات حتى الآن، بل لا تزال المقاعد التي سيحصل عليها اليمين المتطرف لا تمكّنه في معظم الاستطلاعات من تشكيل الحكومة وحده، كما لا يستطيع المعسكر الآخر تشكيل الحكومة منفردًا.وإذا لم تحدث مفاجآت في اللحظات الأخيرة، وهي محتملة في ظل أن معسكر نتنياهو يحتاج إلى مقعد أو مقعدين فقط، ومعسكر لابيد غانتس يحتاج إلى 4-5 مقاعد، فإن الأزمة التي تمر بها إسرائيل من حوالي 4 أعوام ستبقى مستمرة، وفي هذه الحالة يمكن أن تستمر حكومة لابيد بوصفها حكومة تصريف أعمال إلى حين عقد الانتخابات السادسة في الربيع القادم.
قبل الانتقال إلى تناول تأثير تشكيل حكومة برئاسة نتنياهو، لا بد من التعرض إلى السيناريوهات الفرعية التي يمكن أن تحدث، مثل تحالف غانتس ونتنياهو لتشكيل الحكومة بالتناوب؛ حيث يكون غانتس رئيسها في العامين الأولين، ومن ثم نتنياهو في العامين التاليين. وهذا سيناريو وارد، وقد أشار إليه غانتس نفسه، وطبعًا هو المفضل لديه، وربما مثل هذه الحكومة مفضلة لنتنياهو الآن في ظل إدارة بايدن الديمقراطية؛ لأنها لا تجعله تحت رحمة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ولا تعرضه لانتقادات دولية.
وهناك سيناريو فرعي آخر، يقوم على احتمال حصول تمرد داخل الليكود على نتنياهو كونه العائق أمام تشكيل حكومة يمينية خالصة؛ لأن استقالة نتنياهو مع اتفاق بخصوص تخفيف التهم الموجهة إليه بما يحول دون عقوبة السجن له. وضمن هذا السيناريو يمكن أن تُشكل حكومة يمين صرفة بكل سهولة. ففي كل الاستطلاعات، هناك أغلبية ساحقة لأحزاب اليمين (ثلثا المقاعد يمين)، وما يمنعهم من الاتفاق على تشكيل الحكومة نقطة واحدة رئيسة، وهي الخلاف على شخصية نتنياهو. وهذا السيناريو ذو احتمال ضعيف، وما يحول دون تحققه عدم وجود شخصيات قيادية جريئة في الليكود قادرة على تحدي نتنياهو، وفي ظل إحكام الأخير قبضته على الحزب في انتخاباته الداخلية التي جرت قبل شهرين، وتقويض نفوذ منافسيه، فضلًا عن خشية الليكود من أن إبعاد نتنياهو سيؤدي إلى تراجع وزن الليكود واحتمال تشققه إلى حزبين أو أكثر.
ما خطر تشكيل حكومة برئاسة نتنياهو وبمشاركة أحزاب اليمين الديني؟
يتمثل خطر هذه الحكومة في أن حزب "الصهيونية الدينية" المتطرفة سيكون شريكًا أَسَاسِيًّا فيها، وتعطيه الاستطلاعات من 11 مقعدًا حتى 15 مقعدًا، وبذلك سيكون الحزب الثالث بعد "الليكود" و"يوجد مستقبل"، وهذا سيترك بصمات تضفي المزيد من التطرف على خطوات اليمين والليكود تحديدًا؛ حيث سيكون تهجير الفلسطينيين من داخل أراضي 48 إلى الضفة ومن الضفة إلى الخارج مطروحا، ويتم سحب الجنسية الإسرائيلية من العرب بشكل واسع، وسيكون إطلاق النار والعدوان على الفلسطينيين بكل أشكاله أكثر من السابق، بما في ذلك المضي في تهويد القدس والأقصى بمعدلات أكبر وأسرع، وفرض القوانين الإسرائيلية على الضفة وصولًا إلى ضم مساحات منها.
وما يمكن أن يجعل مثل هذه السيناريوهات المتطرفة أكثر أو أقل احتمالًا، ما يأتي:
أولًا: أن يحصل الجمهوريون في الولايات المتحدة، أو لا يحصلون، على الأغلبية في الكونغرس، خلال الانتخابات النصفية التي ستعقد بعد أيام، وهذا إن حدث سيحوّل الرئيس الأميركي بايدن إلى بطة عرجاء؛ لأن وجود رئيس ديمقراطي في البيت الأبيض يقيد الحكومة الإسرائيلية، حتى لو كان صهيونيًا مثلما يعرف بايدن نفسه، لدرجة قوله مؤخرًا: "إنه إذا لم تكن إسرائيل موجودة فيجب إيجادها".
وسيزداد الطين بلة إذا نجح دونالد ترامب أو مرشح شبيه به في الانتخابات التي ستعقد بعد عامين، وهذا الاحتمال قوي ولا يمكن الاستهانة به، وهذا سيفتح الباب للسيناريوهات الأكثر تطرفًا.
ثانيًا: أن يبقى الوضع الفلسطيني في حالة ضعف وانقسام وتوهان، وهذا يفتح شهية المتطرفين على المزيد من التطرف؛ حيث ينهض الشعب حاليًا للدفاع عن نفسه وأرضه وحقوقه من دون قيادة ولا رؤية، ولا إستراتيجيات جديدة بديلة من الإستراتيجيات التي وصلت إلى طريق مسدود، أو يبدأ بالنهوض واستعادة زمام المبادرة وعندها سيلجم المخططات المتطرفة.
ثالثًا: بقاء الوضع العربي على حاله، سيشجع إسرائيل على المزيد من التطرف، مع المزيد من التشرذم، وانتشار سياسات التطبيع والتتبيع العربي لإسرائيل من دون مشروع عربي قادر على النهوض في العرب وأخذهم المكان الذي تستحقه الشعوب العربية في هذا العالم، الذي تتقاذفه الأمواج والعواصف والتغييرات، خصوصًا بعد الحرب الأوكرانية وعواقبها الحاصلة حتى الآن والمحتملة الحدوث.
رابعًا: سير وعواقب والسيناريوهات المحتملة أمام الحرب الأوكرانية سيؤثر بشدة في الفلسطينيين والمنطقة والعالم، وهل تتجه إلى تسوية، أم تتواصل بمعدلاتها الحالية أكثر أو أقل قليلًا، أم تتحول إلى حرب عالمية؟ وهل ستنشأ أزمة وحرب جديدة عنوانها تايوان، خصوصًا بعد التجديد للرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ في قيادة الحزب الشيوعي الصيني، التي ستفتح له باب الفوز في فترة رئاسية ثالثة في الانتخابات الصينية العام القادم. ومن سيخرج في الحرب العالمية الدائرة، أو التي يمكن أن تندلع منتصرًا، ومن سيُهزم، أم ستكون النتيجة متوازنة بلا غالب ومغلوب؟، وهل ستسرع أو لا تسرع في نشوء عالم جديد، وكيف سيكون: ثنائي القطبية، أم متعددًا، أم نوعًا آخر لا يمكن التكهن به منذ الآن؟
نهوض العامل الفلسطيني هو العامل الحاسم
إنّ تفعيل الدور الفلسطيني ضمن رؤية جديدة وإستراتيجيات جديدة وقيادة واحدة هو العامل الأكثر أهمية والحاسم، الذي بمقدوره أن يؤثر في سياسة أي حكومة إسرائيلية بغض النظر عمن يحكمها اليمين أم اليسار أم خليط من اليمين والمركز واليسار، وهذا يستلزم قيام الفلسطينيين بتفعيل دورهم بإحياء المشروع الوطني، وترتيب بيتهم، وإعادة بناء مؤسسات المؤسسة الوطنية الجامعة (منظمة التحرير) على أساس رؤية شاملة وقيادة جديدة تراجع التجارب السابقة، وتستخلص الدروس والعبر منها؛ حيث يتم اعتماد إستراتيجيات جديدة، ويتم وقف الرهانات الخاطئة والخاسرة، سواء على إحياء ما سمي "عملية السلام" والمتغيرات الإسرائيلية والأميركية، أو على المتغيرات العربية والإقليمية والدولية. فالرهان أولًا يجب أن يكون على الشعب الذي أثبت دائمًا أنه مستعد لمواصلة مسيرته التحررية، وعلى عدالة القضية وتفوّقها الأخلاقي، وبعد ذلك يمكن تفعيل واستنهاض العاملَيْن العربي والدولي، والاستناد إلى القوة المؤيدة للقضية الفلسطينية ولنضال الفلسطينيين لتحقيق أهدافهم وحقوقهم.
فإذا كانت الظواهر المجيدة الجديدة مثل كتائب المقاومة، وخصوصًا كتيبة جنين و"عرين الأسود"، استطاعت أن تحدث نوعًا من النهوض الشعبي، وأربكت الاحتلال، وهي ظواهر محلية فردية مع قليل من التنظيم من دون قيادة ولا فكرة مركزية ولا حاضنة سياسية وبرنامجية وتنظيمية وطنية، وفي ظل ظرف عربي أو دولي غير مناسب، فما الذي يمكن أن تحدثه بلورة قيادة واحدة تشكّل قيادة وطنية موحدة للمقاومة، وتحدد الأهداف الوطنية وأشكال المقاومة المناسبة في كل مرحلة، وتأخذ بالحسبان الظروف الخاصة بكل تجمع، وتُخضع المقاومة لإستراتيجية واحدة، وقيادة واحدة، وإرادة مصممة على المواجهة حتى الانتصار؟
[email protected]