واكبت الحمرا صبيحة الجمعة السابع من كانون الثاني, وكانت في ربوع بلدة اقرث, البلدة التي ورغمًا عن انف اهلها؛ خرجوا من ديارهم وهم ينظرون خلفهم واعينهم على بلدتهم مقبرتهم كنيستهم وعلى بيوتهم وفي اعينهم السلاح المصوب على اجسادهم يلاحقهم وهم يسيرون وجرافات الهدم تدخل لتقبع الحجر عن الارض.
ومن هنا يراودني مشهدٌ لا بد ان اشارككم به, ونحن ندخل هذه القرية, واجلس الى جانب رئيس الموقع والذي جذور والداه من هذا الحلم القريب البعيد الحلم المنافي لكل قواعد الحياة, انظر اليه واخبره أي مكان هذا ففي كل حجرٍ رواية, في كل غصن امل وفي كل زاويةٍ يعتصر الالم على صدر اقرث, وكأنه نيشان صبغت ايامه باحلامه رسمت وكان ختمها الشمع الملطخ بالاحمر. دخلنا ورغم قساوة الطريق الا ان قساوة الايام لا ترصد الا الالم مع تأشيرة دخول بابتسامة واطلالة خلابة.
كانت المشاهد كما رواها البعض, للحمرا, وكأنها اشبه باستباحة الدماء يومها عام 1948 وكأن الطير على اجنحتها لا تطير الا مع بزوغ فجرٍ باكٍ, فجرٍ دامٍ ملاْ الصراخ القرى المجاورة.
سارت كاميرا الحمرا, الى طريق اقرث والتي ملاْتها قصصٌ وروايات, حكايا واهازيج دخلنا اذ لنجد راعية القرية الكنيسة وعلى رأسها تمثالٌ للسيدة مريم, واذ نرى شجرة العيد مزينه ومضاءة من على سطح الكنيسة وكأن الحياة تعُجُ في هذه البلدة.
سرنا رويدًا رويدًا, وبخطواتٍ تملاْها القوة والصمود, عاد بنا الزمان في هذه الزيارة الى قبل عشرات عشرات السنين, حين كان اجدادنا يروي ويدمع ليبكي كلٌ بروايته.
كانت زيارتنا وضمن مشروعٍ كانت قد تبنتهُ الحمرا وأعلنت عنه يوم الرابع والعشرون من كانون الاول وهو ليلة الميلاد, وذاتها ليلة تهجير القرية الوادعة قبل ثلاث وسبعون عام, الا ان وفي هذا اليوم ومع شروق الصباح دخلنا اقرث؛ مع وفدٍ عريقٍ كبير, وهم اعضاء جمعية تفسان – محطة للتحليل النفسي, هذا الوفد اتى خصيصًا من مدينة تل ابيب ومنهم من مدينة رعنانا, ليسمع وليكون شاهدًا على اصدار واستصدار كتاب "قضية اقرث وكفر برعم في منظور التحليل النفسي" للكاتب منيب سبيت الاقرثي الاصل الراماوي المنشأ. ومن هنا ومن عنوان الكتاب " ... التحليل النفسي" نستخلص؛ وبأن, هذا الوفد الكبير الذي زار اقرث اليوم من تل ابيب محللون وعلماء نفس.
من ضمن الوفد كان, شبان وشيبات من الجيل الثاني الثالث والرابع للسكان الاصل. اذ تحدثت اليهم الحمرا وواكبت قصتهم الشخصية ورواية الاجداد, وتعلقهم باقرث القرية المهجرة وعودتهم اليها يومًا ما, فجميعهم أكد على ذلك حتى وان كان في اخر حياتهم وهنا سنعرض واحدًا تحدثت اليهم الحمرا وهو الطفل سليمان . الذي أكد مصرًا على تعلقه وربطه باقرث وهذا ما رأيناه في حديثه اذ انفرد وقال لنا " هون دار المختار وهون كان بيت دار سيدي ..." رغم ان عمره لم يتجاوز السادسة عشرة بعد الا ان وبهذه الاحاديث رأينا انه متشبع على القيم والحب وحب العودة.
كان الوفد خير شاهد كما الحمرا, لاستصدار هذا الكتاب القيم والذي روى قضية وعنفوان الاهل والابناء. عنفوان العودة, كما مكتوب عند مدخل القرية , "لن ابقى لاجئ, سنعود".
تحدث السيد عماد يعقوب وهو عضو ورئيس لجنة اهال اقرث سابق, وهنا انفرد بحديثه عن, "الاحلام التي ضاعت تحدث عما جرى كيف دخل الجيش وانزلهم الى ناحية المقبرة وطردهم من قريتهم... تحدث عن العودة عن ان أي لاجئ في أي قرية او مدينة وان كان مبسوط الا انه لا يشعر بالراحة لا سيما يأخذها من بلدته. وانه متى يدخل اقرث يشعر وكأنه ملك يشعر بالطمأنينة".
كما كان للوفد الكريم مداخلات, فاحدى المحللات النفسيات سألت متسائلة؛ لماذا رأينا كل القرى التي هجرت عادت عدا اقرث وبرعم؟ ورد عليها يقول, يكفي هذا الحلم_ حلم العودة فمجرد الحلم وكأنه وثيقة عبور الى الضفة الاخرى.
واحدى المداخلات؛ هل هناك عائلات تسكن هنا او افراد؟
نعم؛ هناك شخصان يقطنان بمحاذاة الكنيسة, ليسوا عائلات بل هما يعتنيان بالأرض والمقبرة..
خلال تجوالنا في اقرث؛ دخلنا الكنيسة واذ بصحن الكنيسة الجميل والذي تزينه شجرة العيد والهيكل, وكأن الزمان يحافظ على هيبة وقدسية المكان. وهناك كانت لقطات موسيقية على انغام التراتيل منها الخاصة بالعيد واخرى طقسية لتحلق بنا عاليًا؛ بصوت رامي ابراهيم وعلى الكمان والة القانون ابناه سام ومجد, وعازف الناي روبير ايوب.
وبعد ذلك نزلنا الى مكان الذي فيه يعود الفرد لخالقه وليومه الاخير "مقبرة القريه" اذ بهذا المكان الجميع أكد ان العودة لا محال سنعود. وهنا كانت محطتنا الاخيرة وكأن بهذه المحطة الخاتمة, هي النهاية في كل شيءٍ نهاية المشوار نهاية الامل والامال, ولعل الى هناك نعود كما اقر كاتب الكتاب سبيت؛ موضحًا ماهية كتابه متحدثًا عن ادق تفاصيل الحلم الممنوع_ العيد اللاعيد. كما وتحدث ايضًا رئيس الجمعية جبريئيل دهان, عن محطات الكتاب عن ادخال الكاتب واسهامه في ان كتب فرويد والتحليل تتخطى مدارس الشبيبه...
ومن هنا ومن هذا المكان انطلقت كاميرا الحمرا لتعود حيث اتت ولكنها تركت هناك املاً رصده الزوار تركت عبقًا من ريح الزيتون شجر السرو تركت صدأ الايام المرسوم على حجارة البيوت. انطلقت على امل وفي يومٍ لتعود وتكون شاهدة على العودة الجماعية.
[email protected]