"يا أمي، غرق أبو أدهم. سيأكلنا السمك". تسجيل صوتي أرسله يحيى بربخ إلى أمه بمجرد انتشاله من المياه في بحر إيجة، بعد غرق قارب كان يستقله مع مهاجرين فلسطينيين آخرين. يبلغ عمرالشاب 26 عاماً وهو أب لطفلين، تواصل مع مهاجر نيوز وروى قصة نجاته.
بدأت في 2012 العمل كعامل بناء. لكن منذ 2018، أصبح الوضع في غزة لا يحتمل، ازدادت البطالة بشكل هائل، وبتنا نسمع ولأول مرة قصصاً عن أسر وأطفال ينامون دون طعام. على الرغم من كل ما نعيشه وعشناه في غزة، لم نصل إلى هذه الحالة من قبل.
لذا بدأت أفكر في خيار الهجرة. في البداية، رفضت عائلتي مجاراتي في هذه الأفكار، لكن وبعد أشهر من محاولاتي لإقناعهم، وافق جدي وأبي وأختي على إقراضي مبلغ 4500 دولار (4000 يورو تقريباً).
في 13 تشرين الأول/ أكتوبر غادرت غزة متجهاً إلى تركيا مروراً بمصر. (تمنح تركيا للفلسطينيين تأشيرة سياحية قابلة للتجديد. تبلغ تكلفة إصدار جواز سفر وتأشيرة سياحية إلى تركيا نحو 175 يورو).
وصلت تركيا في 15 تشرين الأول/أكتوبر، وتوجهت مباشرة إلى مدينة بودروم. لم أستغرق كثيراً من الوقت حتى قابلت عدة مهربين عرب وأتراك. اتفقت مع أحدهم على إيصالي إلى إحدى الجزر اليونانية مقابل مبلغ 3000 دولار (2650 يورو). (وفقاً ليحيى، يضع المهاجرون المبلغ المطلوب في أحد مكاتب تنسيق السفر في تركيا، على شرط ألا يتم سحب المبلغ من قبل المهرب إلا عند وصولهم بأمان إلى الجهة المقابلة من البحر، مما يجعلهم مضطرين للتعامل مع المهرب ذاته في حال فشل محاولة الهجرة).
في المحاولة الأولى لعبور بحر إيجة تعطل محرك القارب وأنقذنا خفر السواحل التركي. ثم تم حبسنا لمدة أسبوع.
أما في المحاولة الثانية، كان القارب مثقوباً وبدأت المياه تتسرب إلى داخله. وللمرة الثانية، أنقذنا خفر السواحل التركي، وتعرضنا للسجن مجدداً.
صورة لأماكن الاحتجاز في تركيا، التي يقضي فيها المهاجرون أسبوعاً بعد اعتراضهم من قبل خفر السواحل والشرطة. المصدر: صاحب الشهادة أرسل الصورة..
خلال تلك الفترة، وعندما لم أكن مسجوناً، كنت أنام رفقة ثلاثة مهاجرين فلسطينيين في فندق متواضع. كانت تكلفة المبيت لليلة واحدة 15 دولار (10 يورو) للشخص الواحد. وكنا نحن الأربعة ننام في غرفة مهيئة لشخصين فقط. بقينا على هذا الحال حتى موعد المحاولة الثالثة والأخيرة.
"مات الشباب.. غرق أبو أدهم.. سيأكلنا السمك"
في 05 تشرين الثاني/نوفمبر، تواصل معنا المهرب واتفقنا معه على توفير قارب صغير سريع، وأن تقتصر الرحلة على سبعة مهاجرين فقط. ثم توجهنا إلى الشاطئ.
تفاجأنا بأنه لم يكن موجوداً، وكان مساعده في المكان ومعه قارب خشبي متهالك، كما كان برفقته 10 مهاجرين آخرين. اتصلنا بالمهرب، ووافق على إرجاع أربع أشخاص، ليصبح مجموعنا 10 مهاجرين فلسطينيين. وبالنسبة للقارب، قال لنا إن هذا القارب الخشبي سيوصلنا إلى منتصف المياه، وهناك سينتظرنا قارب سريع ليقلنا إلى الجزر اليونانية.
بدأ قاربنا بالتحرك بعد غروب الشمس، وعند وصولنا إلى نقطة معينة في عرض البحر، تواصل المهرب معنا، وسألنا إذا ما كان الوضع مستقراً، وأخبرنا بأنه الآن سيرسل القارب السريع، وما علينا سوى الاستمرار بالتقدم نحو المياه الإقليمية.
وفجأة، أصبحت الأمواج عالية جداً، وبدأت المياه تتسرب إلى داخل القارب، حاولنا إخراجها لكن دون جدوى، اتصلنا بالمهرب لكنه لم يجب على مكالماتنا. وفي جزء من الثانية، موجة كبيرة قلبت القارب، وسحبت معها ثلاثة من المهاجرين الغزيين الذين فارقوا الحياة (أبو أدهم الفرا، أنس أبو رجيلة وابن عمه محمود أبو رجيلة).
سقطنا كلنا في المياه، لحسن الحظ أنني وثلاثة مهاجرين آخرين كنا نجيد السباحة فتدبرنا أمرنا، حتى أن أحدنا كان منقذاً بحرياً معتمداً في غزة، وقام بإنقاذ أحد الأشخاص الآخرين، بينما تشبث شخصان آخران بقطعة خشبية من حطام القارب. لكن التيارات سحبتنا بعيدا ولم نعد قادرين على رؤية بعضنا، فالظلام كان حالكا والأمواج كانت تسحبنا على دون هدى.
كنا نحاول الصراخ لنجد بعضنا ونبقى معا، لكنها كانت مهمة مستحيلة في ظل الأمواج والظلام. للحظة اعتقدت أنني الوحيد الذي بقيت على قيد الحياة، كانت مشاعر مختلطة بين الخوف الشديد والتشبث بالحياة والتساؤل عما إذا كنت سأنجو أم لا والتفكير بأصدقائي الذين رأيتهم يموتون أمام عيني، كل هذا وأنا أطفو في وسط الظلام.
بعد نحو ساعتين من هذا الرعب، وصلت قوارب خفر السواحل التركي وأنقذتنا واحداً تلو الآخر. وبمجرد صعودي على متن القارب، وجدت أحد المهاجرين وقد ربط هاتفه بعنقه، فأخذته وأرسلت إلى أمي التسجيل الصوتي الشهير.
"لم تنته معاناتنا بعد"
بعد نقلنا إلى البر، بتنا الليلة الأولى أمام مركز الشرطة في مدينة بودروم، ثم تم سجننا لأسبوع آخر. لم يتم إعطاؤنا سوى بطانية واحدة. ثم نقلتنا الشرطة إلى مدينة موغلا، وهناك تم إطلاق سراحنا.
حاولت أنا وبعض الناجين العودة إلى بودروم، فعلى الأقل أردنا العودة إلى الفندق الذي بتنا فيه قبل محاولة الهجرة الأخيرة، لكن الشرطة كانت قد عممت هوياتنا على أصحاب الفنادق وتم منع تأجيرنا أي مكان. نمنا ليلة واحدة في إحدى الحدائق العامة، وفي اليوم التالي، ولحسن الحظ، استقبلنا شباب فلسطينيون في شقتهم وأحضروا لنا طعاماً، وهناك تمكنت من التواصل مع عائلتي وطلبت منهم بعض النقود، وعدت إلى إسطنبول، ثم إلى غزة.
"فقدت الأمل بالهجرة غير الشرعية"
قررت العودة إلى غزة لأنني فقدت الأمل بالهجرة غير الشرعية ورأيت الموت وفقدت أصدقائي. مشاعر العودة إلى بيتي وعائلتي لا توصف، خاصة بعد التجربة التي مررت بها.
أتفهم تماماً كل شاب يريد أن يهاجر ويبدأ حياة جديدة، لكن نصيحتي هي أن يحاول إيجاد طرق آمنة وشرعية قدر المستطاع.
[email protected]