أهكذا ترحل أيها الصديق.. الرفيق.. العروبي.. الناصري.. النظيف.. تميم منصور؟ أهكذا ترحل دون انذار أو إشارة أو كلمة وداع؟ رحيلك فاجعٌ.. موتك فجوعٌ.. بتنا أصدقاؤك وخاصة أنا وصديقي محمد علي سعيد متفجّعان بموتك المفاجيء، الذي صدمنا إلى حدّ أعجزنا عن الكلام والتعبير عما نشعر به.. حاولنا مواساة بعض فلم نجد الكلام، ولم تسعفنا سوى الذكريات الحيّة الطيبة.. كيف لا وقبل شهر زرناك في بيتك وكان يوما لا ينسى معك والأخت شوقية.. وكم ألحّيت وزوجتك أن نعيد الزيارة وكان الوعد الذي لن ينفذ بعد. خلال هذا الشهر عشت مع كتبك وأفكارك ومواقفك، خلال هذا الشهر تبادلنا الحديث مهاتفة، خلال هذا الشهر تعمقت صداقتنا، فلماذا فعلت بنا ما فعلت؟! سامحك الله أخي تميم.. وشكرا على ما تركته لنا من ذكرى حيّة طيّبة.. شكرا على الإرث الفكري والسياسي الذي زودتنا به.. نعزي أنفسنا كما نعزي عائلتك الكريمة وخاصة زوجتك الوفية، أختنا الأديبة شوقية..
أتذكر يا صديقي زيارتنا لكم في بيتكم قبل أكثر من شهر.. تلك الزيارة التي تركت أثرا مميزا في نفوسنا، وفتحت شهيتنا للقاءات أخرى وتواعدنا القيام بها، لكن القدر قطع علينا ما خططنا له. في ختام تلك الزيارة حملتمونا أنت وشوقية اصداراتكم العديدة والمنوعة، ولما توجهت إليكما بالسؤال أي كتاب سأبدأ بقراءته، وهل أبدأ بكتاب لك أم لشوقية؟ لكزتني خفية وأشرت عليّ بأن أبدأ قراءة كتبك، وكي تغريني أكثر أمسكت بكتاب "مذكرات معلم"، وأشرت إلى مادة طالبا مني أن أقرأها أولا. ولم يكن اختيارك ذاك عبثا، فقد ضربت على الوتر الحساس، حيث جمع القدر فيما بيننا بالفكر والمبدأ ومحبة قائدنا العربي جمال عبد الناصر، أضف إلى ذلك عملنا كمدرسين في منطقتين مختلفتين، لكن عانينا سياسة الظلم والقمع الممارسة على المعلمين الوطنيين، وتشاركنا في الهم، لذا جاء اختيارك في محله. ومن جهتي لم أكذب خبرا، فما أن وصلت البيت حتى فتحت الكتاب وقرأت المادة التي أشرت لي بها. وبيني وبين نفسي كنت أنوي أن أقرأ تلك المادة وأترك الكتاب لوقت آخر، وذلك مسايرة لك وتنفيذا لوعدي أمامك. لكن لم أنتبه لنفسي وأنا أغوص في فصول الكتاب ومواده، حتى أتيت على ثمالته وما ارتويت، نظرا لما أثاره عندي من مشاعر، وخاصة أني وجدت نفسي في كثير من المواقع والمواقف التي مررت بها وكأني أنا الموجود أو المقصود.
ولم أكتف بذلك، بل انتقلت مباشرة إلى كتابك "الانقلابات العسكرية في الأقطار العربية"، الذي علمت باصداره ولم أتمكن من الحصول عليه في حينه، حيث كنت في شوق لقراءته، خاصة عشية الذكرى السنوية الـ 51 لرحيل القائد العروبي جمال عبد الناصر، فقرأته خلال أسبوع واحد، وأعقبته بكتاب "العرب بين الوحدة والانفصال"، حيث فكرت أن أكتب عرضا لتلك الكتب في الذكرى التي أشرت إليها. لكنك سبقتني صديقي الى المناسبة، وكان رحيلك التراجيدي أياما قبل حلول ذكرى رحيل الزعيم الذي أحببته ونظرت إليه بعين مختلفة عن سائر الزعماء، وهذا يظهر في كتبك ومقالاتك العديدة، بل في إهدائك كتابك الانقلابات "إلى روح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر"، الذي جاءت ثورته في 23 يوليو 1952 مغايرة لسائر الانقلابات والثورات العربية. وقد كتبت عنها في الصفحة 145: "الانقلاب الذي قام ليلة 23 من تموز عام 1952 في مصر، يختلف عن الانقلابات العسكرية التي وقعت في الأقطار العربية مثل العراق أو سوريا، فالانقلاب المصري سريعا ما تحول إلى ثورة نجحت في ترسيخ حياة جديدة ونظام مستقر، كما حوّل أرض الكنانة إلى قبلة سياسية، تتطلّع إليها جميع الشعوب التوّاقة للحرية والسّلام داخل الشرق الأوسط وخارجه".
ما زال شهر أيلول يلقي بثقله علينا، حتى تحول إلى شهر للحزن والموت والشهادة عند العرب. فقد شهد هذا الشهر وفي 28 منه وفاة أهم زعيم عربي في القرن العشرين، وقبلها بتسع سنوات بالضبط، انهارت أول وحدة عربية فعلية لدى انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة برئاسة عبد الناصر. وفي أيلول 1970 سفك الدم الفلسطيني والعربي في الأردن ولم يوقفه إلا عبد الناصر. وفي 24 أيلول من العام 2007 رحل ناصري قومي فلسطيني كبير، الدكتور حيدر عبد الشافي، وها أنت تلحق به في ذات اليوم وقبل أربعة أيام من رحيل الزعيم الذي يجمعنا، كما قلت في كتابك "جمرات داخل رماد الأيام": "إن عبد الناصر وفكره والاجتماعي ليس ملكا للناصريين داخل مصر فقط، إنه دستور للجميع، ويجب الأخذ به دائما أنه مدرسة لكل الأجيال".
[email protected]